الذين مثل رباب الحسن لا يغيبون وإن ماتوا. عندما نذكرها، يذهب بنا طيفها الى الجبهات، هناك الى ارض المقاومين، الى قضاياهم وقضيتهم. "حُسنُ" الصوت أرهق العدو، وعلا على صوت الرصاص، مسكّناً ضجيج المعركة بلحن انثويّ. ما أخطأ من قال إن الكلمة رصاصة مقاوم، فما بالنا بعقود من الزمن، اضفى فيها صوت رباب على الجهاد جهاداً؟
بدأت رباب مسيرتها المقاومة مع اذاعة النور عام ١٩٨٩. كانت الاذاعة آنذاك صوت المقاومة الاول، وكانت رباب احد اعمدتها الاساسية، في زمن قلّ فيه المناصرون، وأُدين فيه كل من تابع الاذاعة. كانت رباب حينها فرداً من هذه الاسرة الصغيرة، "مجندة" لنهج المقاومة كما اسموها، فلم يقتصر دورها على أن تكون الموظفة فحسب، بل نذرت حياتها للقضية بكل ما تعنيه العبارة من معنى. اضطرت حينها رباب في ظل الظروف القاسية التي عانتها الضاحية والقرى المحتلة الى تغيير اسمها الحقيقي "زينب عواض"، والى العمل في الظل دون حواجز او قيود، حتى لا يتعرّض العدو الى اهلها واقاربها في بلدة الريحان، التي كانت رازحة تحت الاحتلال الصهيوني.
تحدثنا الحاجة حنان الحسيني، مديرة البرامج في اذاعة النور، عن المرحومة "زهرة الصوت المقاوم" كما أسموها، تخبرنا عن حياتها الشخصية التي لا تختلف كثيراً عن حياتها المهنية المقاومة، فـ"دائماً ما تحضر قضية المقاومة في حديثها، وغالباً ما يطغى ذكر الشهداء على حضورها". تصفها بالصبورة التي شقت درب الحياة وحدها، بعيداً عن الاهل، في ظروف الاحتلال حينها. كانت الرجل والمرأة في الوقت عينه. لم يتسلل الضعف الى روحها، ولم تسمح للمرض بالتوغل الى ذاتها، "لم نرَ العجز عليها، وكيف ذلك وهي التي اندمجت شخصيتها بنهج "المقاوم"، الذي لا يعرف معنى الانكسار والهزيمة؟ فمرّة نواجه العدو ومرة أخرى يكون لنا المرض عدواً". وتصفها الحاجة حنان بالمبادرة الشجاعة، التي اختارت أسمى القضايا واطهرها "لون المقاومة"، وتضيف "قدمت المرحومة نموذجاً للجيل القادم، ورمزاً للاعلام الملتزم بقضايا الوطن المحقّة، فبرزت أيضاً خارج الاثير والبث المباشر".
من جهتها، لا تنسى رفيقة دربها الحاجة ندى بنجك "رباب الانسانية" والاخلاق، المتلهفة للمساعدة، ولخدمة الغير. "لقد سعت رباب لتأمين عمل اخوات كثيرات، احتضنتهن، قدمت لهن النصيحة في تحديد زوايا شخصيتهن. كانت المفتاح لجمع العديد من الاخوات والاخوان في علاقة زواج ناجحة، في حين انها بقيت من دون زواج. كانت محبة، سلسة في التعامل مع الآخرين، قريبة من الناس، لا تلمس الغربة في جلساتها. لقد تركت رباب بصمة في قلوب محبيها، وكان لها حضور مميز، بعيداً عن حبّ الذات و"نزعة الحضور"". تضيف صديقة الدرب ندى: "عام وشهران لم تتمكن من كسر عزيمة رباب. لم يثنها المرض عن اهتمامها بعملها ومتابعته كما لو انها باقية. لقد طلبتُ منها تسجيل أحد البرامج بصوتها، رحبت بذلك مسرورة، وعلى الرغم من انها في لحظات وداع وألم، لم تفارق الضحكة مبسمها. وبعد، القوة في رباب لم تنته هنا، كانت تذهب الى العلاج ضاحكة صبورة، القناعة كانت دواءها، فكنا نلمس الرضا في كلماتها، لتلتصق "آه" الالم بعبارة "الحمد لله" دائماً وابداً". وتستفيض الحاجة ندى في الحديث عن الصديقة والأخت الراحلة: "لقد طلبت رباب منا ان لا ندعو لها بالشفاء، وان ندعو بما فيه خير لها، فلربما الموت خير، ولربما الحياة موت".
كرست المرحومة آخر أيام حياتها لذاتها، ولتوطيد العلاقة بالله، فكانت ترفض في بعض الاحيان استقبال الزوار، لا هوناً ولا ضعفاً، لكن كي لا تنشغل قيد انملة بالامور الدنيوية الفانية، وحتى لا تقطع خلوتها بربها، التي تتجلى في فترات الليل. وتنقل الحاجة ندى عن لسان المرحومة حالة السعادة التي كانت تعيشها ليلاً، في الانس مع الله. كانت تشعر انها نُظّفت من الداخل، ما جعلها لا تتمنى الشفاء من مرضها. وفي حديث مع صديقتها وجارتها الحاجة عفاف علوية، تختصر الاخيرة علاقتها برباب بـ"علاقة روح"، تتلمس فيها الأشياء الجميلة. وكان اكثر ما وطّد هذه العلاقة، حب رباب لكل ما يخص الشهداء، وهو جزء لا يمكن لرباب ان تغفل عنه في شخص عفاف، اخت الشهيد غسان علوية، من الزمن الجميل كما تصفه المرحومة. تحدثنا الحاجة عفاف عن المرحومة في ساعات الاحتضار، كيف انها ركزت على أمرين اساسيين، لم تترك الصلاة حتى في آخر لحظات حياتها، ولم تغفل عن وقتها ايضاً. اما الأمر الثاني الذي التزمته رباب فهو برّ الوالدين. لقد نادت رباب في آخر ساعاتها "جيبولي امي" حتى تنال الرضا الاخير.
وبعد، الصفحات لا تفي المقاومين حقهم، وتعجز الحروف عن تقديرهم، ومنهم الحاجة رباب التي كانت مقاومة في كل ساعاتها واوقاتها حتى غيّبها المرض فأفقدنا صاحبة الصوت الملائكيّ. لقد كانت - كإعلامية مقاومة - في مقدمة الجبهات لا خلفها، وزيّنت بصوتها حِقَبَ الانتصار، منذ التسعينات، مروراً بالتحرير، وحتى اواخر الانتصارات التي شاركت فيها على طريقتها. سيفتقد الاعلام المقاوم حتماً الترنيمة التي لا تموت .."رباب الحسن".