فاطمة مراد
فكت الغصن الذي بدا وكأنه سينكسر. نظرت طويلاً إلى قطعة القماش الحريرية من فستانها القديم، التي لفته بها، والتي تضاءل حجمها، احتضنتها، واتسعت ابتسامتها كنهر فرح . دخلت لتخبر زوجها «أبا ياسر» فاصطدمت بوجهه المكفهر، ونبرته الساخطة: إنهم يتحدثون عن بطولاته ...هاه! لا تصدق ولو رأيته بأم العين. همت بإخباره، لكنها تراجعت حينما استدار، وجحظت عيناه، كمن يلفظ انفاسه ولا تستجيب له. مشت على مهل، كصنوبرة لا تهزها العواصف، وتمتمت: ياسر. سرحت نحو البعيد، جالت بناظريها على القرى، ذرفت دمعة حارة، وانهالت باللعنات على الصهاينة والعملاء وكل فاجر.
ساعات الصباح الأولى، أيقظها دوي رصاص، وأصوات قنابل، راحت تضيء لنهار جديد، يشرق على مقاومة، تمهيداً لانبلاج النور الصادق، المشرف على تحرير الأرض من الدنس، والنفوس من القهر. لفت منديلها جيداً، وخرجت إلى الحاكورة، اقتربت من شجرة التين، تلمست الغصن وقطعة الحرير، وتمتمت بحيرة: ماذا لو كنت مخطئة، وكان الأمر كله وهماً بوهم؟ ماذا لو ...... يبست العبارة في حلقها، كزهرة يوشك ان يغادرها الرحيق، جزعت، وسكنت كجثة هامدة، حين تهيأ لها خيال «ياسر »....يدها على الغصن، راحت تشد بها على اليد المباركة! تهلل وجه «ابي ياسر» فجأة، ودبت الحياة في قسمات مرآته، حيث يستقر ابنه فيها، لون العينين ذاته، والإباء المودع فيهما، يدلان على حمله لنبأ يثلج الأوصال... صامتاً ظل، حين ألحت عليه بسؤالها، وقام بإسكاتها، فسكتت مستسلمة، تنظر إلى صورة «ياسر» في مرآة أبيه، تتوهج بنور بهي.
في عتمة الليل انسلت بتؤدة، وابتعدت ناحية الكرم، جهة أطراف القرية، في الوادي المديد. جلست تحت زيتونة تترقب رؤيتهم، فالعديد من أهل القرية شاهدوا أطيافهم، وهم يمرون من هنا، متخذين من هذا الطريق ممراً لهم. غمر السرور المشوب برعشة خفيفة قلبها المتعب.... الدقات تتسارع وهي تسمع حفيفاً للشجر المتدلي. لقد خرجت في هذا «الحلم» لتشم رائحة ابنها في المغادرين، من ضفة للقلب إلى قلب ساحات الجهاد، فهو بينهم لا ريب، هو معهم ... وبينهم. إلى المكان ذاته، سبقها شالها الملوح في الصباح، لموكب الشهيد القادم بعد قليل. «ياسر»...لم ينتظر، بعدما جُر للتجنيد غصباً، فر سريعاً، العملاء كانوا أسرع، لاقى حتفه على أيديهم، بعد معركة طويلة. إستشهد. وجده بعض الفلاحين في الوادي المجاور، وإلى جانبه ذخيرة ملفوفة بقماش. أعياه الفراق، مد يده إلى نهر الشوق واغترف - لا بل مزق - من أشلاء الحرير، على الغصن المنكسر .....أنامل أسندت رأسه المنهك. كانت مبللة بالدم، والآثار سطور، قرأ الناس فيها فقرؤوا أروع إهداء ...للمقاومة.