لا يحضر ذكر فلسطين التاريخية إلا وتطل "شفا عمرو" كواحدةٍ من أهم المدن الفلسطينية التي عرفت مجداً وزهواً في عددٍ من الحقبات التاريخية الأمر الذي أعطاها ذات يوم لقب "روما الصغرى". كانت شفا عمرو مركزاً رئيسياً للحكم إبان حكم ظاهر العمر (وهو أحد أوائل الولاة الفلسطينيين الذي استقلوا بفلسطين إبان الحكم العثماني لفلسطين 1768) الذي شيد فيها قلعته الشهيرة. وبعد النكبة في العام 1948 أصبحت المدينة مركزاً لفلسطينيي الـ48 ومكاناً رئيسياً لالتقائهم نظراً لأن غالبية سكانها كانوا من العرب.
تقع شفا عمرو في منطقةِ الجليل الأسفل، وتبعدُ عن البحرِ مسافة 13 كيلومتراً وعن حيفا وعكّا والنّاصرة 20 كيلومتراً، وتعتبر واحدةً من المُدنِ المركزيّة في الجليل. وبحسب إحصائيات جرت العام 2013 فإن عدد سكانها يبلغ قرابة الأربعين ألف نسمة. حملت لقب "روما الصغرى" نظراً لأنها تقع على سبع تلالٍ، الأمر الذي جعلها تشبه مدينة روما الإيطالية عاصمة الحضارة الرومانية. وأصل تسميتها "شفر عام" المأخوذ من التوراة ويعني حرفياً: بوق الرب. وهذه التسميات أخذت أصلاً من التوراة نظراً لأن أحداثاً تاريخيةً كثيرة وقعت في محيط المدينة بعضها حقيقي وبعضها قد يوسم بالخيال. حيث يشير الباحث الصهيوني يشار أدوليم أنَّ بعض كتّاب التوراة الأوائل (يلقبون بالكتّاب) قالوا إن صوت "بوق الرب" (أو ما يعرف إسلامياً باسم "الصور") سينفخ من هناك، وإن أول صوتٍ سيسمع في يوم القيامة سيصدر عن المدينة. وليس هناك من دليلٍ "مكتوب" على صحة هذا الكلام من عدمه بالتأكيد.
ويعود اهتمام الصهاينة واليهود بمدينة شفا عمرو إلى كونها واحدة من حواضن "السنهدرين" وهو المجلس اليهودي الأعلى الذي أقيم لجمع شتات اليهود وقيادتهم بعد خراب هيكل سليمان في العام 70 للميلاد، فضلاً عن أن "ثوراتٍ" عدة بحسب مؤرخين يهود كثر قد وقعت هناك إبان القرنين الأول والثاني للميلاد، حيث وجدت مغاور في البلدة تحوي مدافن لمن قيل إنهم ثوارٌ اختبأوا في تلك المغاور خوفاً من الرومان. بالإضافة الى وجود ضريح الحاخام يهودا بن ببا الذي كان قد أعدمه الرومان. ويعتبر بن ببا أحد "القديسين" العشرة اليهود، ويقال إن لضريحه "قدرات شفائية" عجائبية، لذلك يزوره كثيرٌ من اليهود سنوياً.
ظاهر العمر واستقلاله
عرفت شفا عمرو إبان حكم ظاهر العمر الزيداني تحولاً كبيراً إذ إنها أصبحت عاصمة الدولة التي بناها الوالي العثماني الذي أعلن استقلاله عن حكم السلطنة في العام 1768، وبنى قلعةً كبيرةً فيها وحصنها كثيراً. وقد اختار العمر شفا عمرو لبناء قلعته وحاضرته لأنه شاهد بقايا القلعة الرومانية (Le Seffram)، فتنبه إلى أنَّ مكان القلعة هو مكانٌ مختارٌ بعناية ويمثّل حصانة طبيعية.
ولى العمر ابنه عثمان على المدينة، والذي أراد أن يعلو بالقلعة كي يرى قلعة "شقيقه" الذي كان يحكم مدينة صفد، وبالفعل فقد ارتفع بالقلعة طابقين قبل أن توافيه المنية. وقد خلّد حكم ظاهر العمر من خلال رواية مهمة للروائي الفلسطيني إبراهيم نصرالله اسمها "قناديل الجليل". وقد ازدهرت المدينة للغاية إبان حكم العمر وبنيه، فكانت تجارياً صلة وصلٍ مهمة بين تجار بلاد الشام، فضلاً عن أهميتها السياسية بالتأكيد. كان سوق المدينة الكبير القلب النابض للمدينة، ويحتل مساحةً كبيرةً فيها، وتضمن كثيراً من المطاعم وبيوت الراحة (الفنادق)، وحوانيت الملابس والخضار والبقالات وغيرها. ظل هذا السوق القديم في المدينة مركزاً تجارياً مهماً حتى دخلت السيارات إلى البلاد فانتقل السوق بأكمله إلى الشارع المجاور كون السوق القديم لا تستطيع السيارات المرور عبره، فهو يصلح للمارة الراجلين. من هنا تحول شيئاً فشيئاً إلى سوقٍ يضم بعض المقاهي التراثية.
الشيخ نمر السعدي والمقاومة
كان الشيخ نمر السعدي واحداً من وجهاء مدينة شفا عمرو، إلا أن شهرته تجلت من خلال مشاركته قائداً في ثورة 1936 وثورة عز الدين القسّام. وقد كان السعدي الشريف النسب (أي أنه ينتسب إلى رسول الله(ص)) مسؤولاً عن تأمين الذخائر والعتاد للمقاومين وأحد اثني عشر نقيباً أساسياً لعز الدين القسّام. ويذكر أنه قال يوماً إنه مستعدٌ للذهاب إلى آخر الدنيا لإحضار أسلحةٍ لمقاومة الاحتلال. وبالفعل فإنه سافر وسعى كثيراً لتأمين السلاح الأمر الذي كان شديد الصعوبة آنذاك لكثيرٍ من الأسباب. استشهد الشيخ السعدي بعد اصابته بطلقٍ ناري استقر في جسده في معركة "يعبد" الشهيرة والتي ألقي القبض عليه بعدها وحكم بالإعدام شنقاً، ليخفف الحكم نظراً لقيمة الشيخ والخوف البريطاني من تأجج الثورة ما إذا تم إعدامه، أضف إلى ذلك حالته الصحية السيئة. توفي بعدها الشيخُ الجليل ودفن في منزله في مسقط رأسه قرية السعدية. وقد أعطى الشيخ السعدي حديثاً لصحافي عربي كان وقت المعركة ونُشر وبعض ما فيه: "إن جمعيتنا قد تأسست منذ سنتين برئاسة فضيلة رئيسنا الشيخ عز الدين القسام، وكنا نجتمع سراً في حيفا، إلى أن كمل عددنا. خرجنا من حيفا منذ شهر بعد أن اتفقنا على نصرة الدين والوطن وقتل الإنجليز واليهود، لأنهم محتلون بلادنا، وبوصولنا إلى سهل بيسان قتلنا الجاويش اليهودي، وقد كان معه جنديان عربيان فلم نقتلهما، وكنا مسلحين بالبنادق ومعنا كمية من الخرطوش تقدر بـ 7000 خرطوشة، وقد اشترينا هذه البنادق ورصاصنا من مالنا الخاص بعد أن وفرناه من مصروفاتنا. ان جمعيتنا سرية، وكنا لا نقبل فيها إلا من كان مؤمناً مستعداً أن يموت في سبيل بلاده".