عاد رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو إلى الكيان قبل أيام بعد "خطاب" عادي بعض الشيء في الكونغرس، وذي ضجةٍ قبله وبعده. فالضجة التي سبقت الخطاب كانت ذات أثرٍ أكبر بكثير من الخطاب نفسه. نفس الضجة –كذلك- أثيرت بعده تماماً. ولننسَ ما قبل الخطاب قليلاً، فهو بات جزءاً من الماضي، لكن القادم بالتأكيد وردة الفعل على الخطاب في حد ذاته داخل دولة الاحتلال كبيرٌ على ما يبدو. كتب لبلاخ سيغان في معاريف قبل أيام (في 5-3-2015): نتنياهو متعهدُ خراب. كان الكاتب الصهيوني المعروف يحاول من خلال عنوانه الذي لم يكن صادماً جداً في الصحافة العبرية إيصال فكرة أنَّ "بيبي" لم يعد أمير الكيان غير المتوّج وأن "ملوك إسرائيل" القدامى، وهي التسمية التي أعطيت لقادة الدولة العبرية الأوائل أمثال: بن جوريون، إسحاق شامير، مناحيم بيغن، والذين لربما كان آخرهم آرييل شارون، قد انتهوا إلى غير رجعة.
عاد "رئيس الوزراء" من خطابه في الكونغرس قبل أيام منتفخة أوداجه معتقداً أن النصر في الانتخابات القادمة بات بمتناول اليدين. لكن الصحافة العبرية، ومن بينها مقال سيغان، أوضحت له أن الطريق لا يزال طويلاً، وأن الانتصار في معركة كلاميةٍ "صغيرة" لا يعدو كونه زوبعةً في فنجان. كتب آري شافيت من جهته –مثالاً- في هآرتس(5-3-2015) تعقيباً على ما حدث: إنه "خطابٌ حزين". ورغم ثنائه على الخطاب إلا أنه أردف بأن: "نتنياهو كان محقاً في خطابه، لكنه لم يكن حكيماً به"، حتى إنه وصل إلى "قسوة" دقيقة حينما قال: الخطاب كما لو أنّه لم يكن البتة، حيث إنه فشل، ولم يكن أكثر من خطابٍ مسرحي لا قيمة له. ويشير المقال إلى "عمق" الاختلاف بين خطابات نتنياهو السابقة وخطابه هذه المرة. فهو بكل بساطةٍ بات راهناً لاعباً رئيسياً في السياسة الأميركية، لا في الشرق الأوسط فحسب، بل أيضاً في الولايات المتحدة. لقد تم استغلال الخطاب واستعماله في لعبةٍ سياسية بحتة. لقد كان بالنسبة للجمهوريين خطاب "أذى" أكثر من كونه مجرد خطاب رئيس دولةٍ أجنبية صغيرة بعيدة نسبياً (رغم ما لخطابات رؤساء الدولة العبرية من أهمية نسبية). إنهم يعلمون بالعلاقات المتأزمة بينه وبين أوباما، ويعلمون أن وجوده في الكونغرس يضايق الرئيس الأميركي. لذلك تم استجلابه واستعماله بهذه الطريقة الخاصة. هو من جهته، كان بحاجةٍ لخطابٍ كهذا من جانبين: أولهما للتأكيد على "خطر" إيران، وثانيهما للاستفادة من وجوده هناك انتخابياً في الداخل الصهيوني.
بالتأكيد هنا لا يمكن نسيان الفرصة التاريخية لتوجيه صفعة لأوباما، فهما لا يطيقان بعضهما بعضاً البتة. لا ينسى أوباما أبداً تعنت نتنياهو وصلفه في موضوع المفاوضات الفلسطينية-الصهيونية إبان فترة حكمه الأولى في 2009 وصولاً حتى العام 2011، وتأكيداً لا يمكنه نسيان وقوف رئيس الوزراء الصهيوني مع خصمه مات رومني في انتخابات ولايته الثانية. أما اليوم وبعد الخطاب فإنه أضاف شيئاً جديداً لقائمة كراهيته لنتنياهو: لقد أهانه علنياً، أتى إلى بلادٍ يحكمها، وخطب في "كونغرسها" رغماً عنه، وهو نفس ما أشار إليه الكاتب والمحلل السياسي في معاريف بن كسيبت حينما عنون أن الخطاب هو "إهانةٌ علنية للرئيس الأميركي" وأن ذلك الخطاب رغم ذلك كان "معتاداً" و"ضئيلاً" ولم يضف شيئاً جديداً، فهو لم "يرتفع" فوق سقف ما قاله في الآيباك، بل بالعكس ظل ضمن ذلك الإطار. إنه باختصار وبحسب بن كسيبت خطابٌ معتادٌ لكن مجرد وجوده في ذلك المكان هو تلك الصفعة التي لم يكن هناك جدوى منها. إذاً ماذا بعد الخطاب؟ هناك تحليلاتٌ كثيرة تدور حول ماذا سيفعل "بيبي" لاحقاً، في البداية سيعود ليمثّل دور رئيس الوزراء "المجد" والذي ينتبه لتفاصيل عمله، مؤكداً للجمهور الصهيوني أنه لا يضيع وقته في "ترهات" السياسة وأوحالها.
سيخطب في مكانٍ ما عن "ضرورة الاستيطان" وأهميته مشجعاً عليه أكثر، سيهاجم رئيس السلطة الفلسطينية أبا مازن بعض الشيء، وسيحاول اللعب على أوتارٍ متعددة لمهاجمة خصومه في "المعسكر الصهيوني" (تحالف هيرتزوغ - وليفني)، ولربما حتى سيضرب بعض الشيء تحت الحزام. لكن بالتأكيد لن يضرب نهائياً بشكلٍ علني إلا إذا ما استفز إلى مواجهةٍ مباشرةٍ ومكشوفة، فهو يعلم تماماً بأن خصومه "متناغمون" معه في كل الأمور الرئيسية والمصيرية: العلاقات العربية/الصهيونية، السلام، الاستيطان وبالتأكيد العلاقات مع الفلسطينيين. يكمن السؤال هنا إذاً: على ماذا سيختلفون؟ كان وزير الدفاع الصهيوني الأسبق موشيه آرينس (من الليكود أساساً) قد أشار في مقالةٍ في هآرتس تزامنت مع الخطاب في الكونغرس (3-3-2015) أنّ الخلافات بين الليكود وخصومه باتت "متآكلة" لذلك فإن "صراعهما" سيكون انتخابياً صرفاً في أمورٍ تبتعد عن "البديهيات": كالأسلوب الأجدى اقتصادياً في التعامل مع الأزمات المعيشية، أو التعامل مع خطر "حماس"، ناهيك عن علاقاتٍ شديدة الالتباس مع مصر أو بعض القوى المشاركة في المعارك على الأراضي السورية كالجيش الحر وجبهة النصرة. باختصار، عاد "شمشون" الورقي إلى دولته، كما ذهب: ممثلاً أدى دوره بإتقان، واليوم يعود ليكمل ما سعى إليه منذ البداية: محاولة الحفاظ على منصبه، لا أكثر ولا أقل.