أحيا لبنان يوم الاثنين الموافق 16 شباط 2015 ذكرى استشهاد القادة رواد الشهادة والاستشهاد عباس الموسوي وراغب حرب وعماد مغنية طيب الله ثراهم وأسكنهم فسيح جنانه. وقد تحدث بهذه المناسبة كالعادة السيد حسن نصر الله نصره الله وجنوده الأباة. إحياء الذكرى يشكل نشاطاً هاماً في تاريخ الشعوب لما يحمله من رمزية ومن تأكيد على فضائل التضحية والفداء، ومن ترسيخ لرموز تاريخية تشكل قدوة للاحقين وأسوة تحفز الناس على العمل الذي ينهض بالأمة والمواطنين جميعاً.
إحياء الذكرى من قبل حزب الله لم يكن يوماً للتباهي أو لاستثمار الدماء في مناكفات داخلية أو مزايدات أو تبجحاً، وإنما يأتي دائماً بهدف الحشد والتجميع والتوحيد، وليكون الإحياء مناسبة لتذكير الناس بعظماء الأمة وتوحيدهم على منهج العزة والكرامة والإباء. وعادة ما يظهر هذا في خطابات السيد حسن التي تستغل المناسبة لرفع شأن لبنان، وللتأكيد على أهمية الوحدة الوطنية والقفز عن المنطق الطائفي الضيق الذي يفرق ولا يوحد. أمة قادتها شهداء لا يمكن إلا أن تنتصر، وأمة قادتها متنعمون في الفنادق لا يمكن إلا أن تنهزم. لبنان من الصنف الأول. لقد ظن العديد من العرب أن لبنان مجرد منطقة سياحية لا تعرف سوى النعومة والحرائرية وأنه لا طاقة له على صناعة التاريخ والمجد العظيم، فإذا بلبنان يقف شامخاً أمام العالم عندما سطر أول انتصار عسكري عربي على الصهاينة عام 2006. جيوش عربية جرارة هرب جنودها مع أول رصاصة أطلقها عليهم الصهاينة، في حين وقف أبطال حزب الله بصلابة وقوة أمام جيش الصهاينة المتعاظم بمختلف أصناف الأسلحة الفتاكة والقوة النارية الهائلة، ليحققوا نصراً مؤزراً أفشل الصهاينة وقضى على حلمهم في تغيير وجه المنطقة وإقامة ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد.
لا يصمد بنيان لا يقوم على أساس متين وقوي يتحمل أعتى الظروف والمناخات، وهكذا هي المقاومة اللبنانية البطلة التي وقفت على أفكار شهدائها العظام، وتمكنت بدماء هؤلاء الشهداء التي روت أرض لبنان أن تنتصر على العدو مرة تلو أخرى.
السيد المجاهد عباس الموسوي كان حجر الزاوية الفكرية والثقافية والتربوية الذي رسخ فكر التضحية والشهادة، ورسخ فكر العمل الجماعي ونظرية الأمن الجماعي والرقي بالعمل الجماعي والتعاون المتبادل، وهو الذي أقام صرح الانتماء لهذه الأمة، وغرس ثقافة العطاء وتحمل المسؤولية والالتزام بها. لقد عزز الفكرة الإسلامية في النفوس، وشحذ هذه النفوس وهذبها، وصنع الإنسان الجديد في الجنوب اللبناني، وأحيا النفوس المحبطة، وارتقى بمفاهيم العزة والكرامة. لقد كان معلماً فاضلاً متمتعاً بشخصية عبقرية مؤثرة فاجتمع الناس حوله واثقين به ومستعدين لتقديم ما يلزم من التضحيات من أجل النهوض والبقاء أقوياء. لقد صنع مجتمعاً جديداً يختلف عن المجتمعات العربية ومؤسساً على أركان النهوض والمنافسة بحسن العمل. أما الشيخ راغب حرب فكان مثالاً وقدوة في التنظيم والأداء والاستعداد دائماً أن يكون في مقدمة المساهمين والمشاركين والمضحين. لم ينزو الشيخ راغب حرب جانباً، بل كان يصر دائماً أن يكون في صدر الجبهة ومقدمتها مؤمناً بأن الحياة الأخرى أعظم وأفضل من الحياة الدنيا. لقد قدم نفسه فداء للبنان دفاعاً عن أرض الجنوب. أما القائد الفذ عماد مغنية فكان العقل الكبير المفكر في الاستراتيجية العسكرية، وهو الذي طور فن التكتيك العسكري في المنطقة العربية الإسلامية ليصبح الملهم العسكري لفصائل المقاومة العربية الإسلامية. لقد تفوق عقله العسكري على جيوش جرارة مثل الجيش الصهيوني، وأثبت أن نظرياته في التكتيك العسكري ناجحة بامتياز، وعجزت الدول بما فيها الولايات المتحدة عن التفوق على تكتيكاته. لقد نجح تكتيكه العسكري في جنوب لبنان عام 2006، ونجح في الحروب على غزة أعوام 2009/2008، 2012 و 2014. واستطاع أن يقود المقاومة اللبنانية إلى النصر، واستلهمت منه المقاومة الفلسطينية على مدى حروب إسرائيل عليها.
لقد استطاع الصهاينة قتل واغتيال هؤلاء الشهداء العظام، لكن ذلك أثبت أن الدم يتفوق على الطائرة والدبابة. بأعمالها الإجرامية أثبتت إسرائيل أن دماء الشهداء تعزز الثقة بالذات لدى المقاتلين، وتيسر العمل الجماعي، وتثبت أن الدماء النازفة ليست إلا مصباحاً درياً يهتدي به المقاومون المؤمنون بربهم وبحق شعوبهم بالحرية والتقدم والبقاء. هذا الدم الزكي النازف استجمع قوى الشعب اللبناني، وحفز اللبنانيين على الانضمام للمقاومة ورفع من رغباتهم في تقديم التضحيات ورفع شأن المقاومة. هذه الدماء النازفة صنعت التاريخ وما زالت تسطره بأحرف من نور، وهي تشكل الآن رموزاً تاريخية فاعلة لكل الذين يبحثون عن الحرية.
لا ثورة بدون تضحيات، ولا مقاومة ناجحة بدون قادة يتقدمون الصفوف. لقد شهدت فلسطين أمثلة أضاءت الطريق. فمثلاً تقدم الشيخ المجاهد عز الدين القسام الصفوف، وقاد المجاهدين ضد الإنكليز. وعندما استشهد أصبح رمزاً جهادياً للفلسطينيين يقتدي به شباب فلسطين، وما زال اسمه حتى الآن يتصدر لوائح المجاهدين الفلسطينيين، وكتائب القسام تتقدم الصفوف حاملة رايته الجهادية. واستشهد القائد القعيد أحمد ياسين، ومن ثم عبد العزيز الرنتيسي واسماعيل أبو شنب وشحادة والجعبري. لقد ضربوا المثل الأعلى في الصمود والتضحية والفداء، فأيقن أبناء فلسطين أن المقاومة التي يتصدر تضحياتها القادة لا بد أن تنتصر فلم يبخلوا بنفوسهم وجهودهم، وجعلوا من المقاومة الفلسطينية عنواناً للبسالة والشجاعة والعطاء.
دماء القادة الشهداء لا تذهب هدراً، ووقعها في النفوس خالد إلى الأبد وتبقى على الدوام ملهمة للأجيال التي تجاهد من أجل الحرية والاستقلال وصون الأوطان. رحم الله الشهداء، شهداء المقاومة العربية والإسلامية وجزى الله نفوسهم عنا خير الجزاء.