أصبحنا معتادين على زيارته لمنزلنا في كل زيارة له إلى الجنوب. يسلّم علينا، يلاعبنا، يمزح، يضحك. وكم كنا مسرورين حين نستيقظ للذهاب إلى المدرسة فيخبرنا أبي أن السيد عباس في غرفة الضيوف، اذهبوا وسلّموا عليه. نتسابق وأخي من يصل أولًا إليه لينعم بحضنه. كان ذلك قبل اختطاف والدي الشيخ عبد الكريم عبيد من قبل العدو الصهيوني في العام ١٩٨٩، أما بعد ذلك التاريخ فأصبح للزيارة معنى آخر، زيارة الأب الذي يطمئن على أولاده وعائلته، يسأل عن أحوالنا، عن صحتنا، مدرستنا، ونحن نستقبله كأطفال يلتقون بوالدهم بعد غياب. لم يكن بالنسبة لنا أمينًا عامًا، بل كان أبًا عطوفًا حنونًا كريمًا، نرى في وجهه وجه أبي، وفي عينيه نظراته، وفي حضنه دفءً أبويًا. وخلال زياراته لا تفوته زيارة جدي وجدتي (رحمهما الله) للاطمئنان عليهما وسؤال خاطرهما، ووعدهما بقرار المقاومة بالعمل والسعي لتحرير الشيخ وورفاقه الأسرى بكل جهد وما أوتيت من قوة.
يوم ١٦ شباط ١٩٩٢، الذكرى السنوية الثامنة لاستشهاد الشيخ راغب حرب، عند الظهر، نحن بانتظار السيد عباس في منزلنا في جبشيت، لم يتأخر، وصل ومرافقوه، وأم ياسر وحسين، سلّم وحضن وسأل واطمأن، علينا، والدتي وأخوتي، ثم زار جدّي وجدّتي كعادته، وأكمل طريقه إلى المسجد حيث مكان الاحتفال بالذكرى. أم ياسر وحسين في منزلنا، مع الأقارب وأهل القرية من النسوة، وذهبنا جميعا للمسجد، تتذكر أمي كيف كانت أم ياسر توزع ابتساماتها وتحاياها على جميع الحاضرات، وجهها كعادته في بشر وأنس، وهن يسترجعن ذكريات من أيام الاحتلال وبدايات المقاومة. في المسجد، كانت كاميرتي لا تفارق السيد عباس، جالساً، واقفاً يسلّم، يخطب على المنبر، يقبّل أحمد نجل الشيخ راغب.
خرج الحضور جميعاً للاستماع لأناشيد المقاومة من فرقة الفجر، وبعدها انطلقوا بمسيرة إلى روضة الشيخ راغب والشهداء.
بعد انتهاء المراسم، غادر موكب السيد عباس القرية، وأنا ورفاقي بدأنا نلعب "الحرب" بقطع أخشاب وجدناها قرب منصة فرقة الأناشيد، نطلق النار حيناً على المختبىء من رفاقي، وحيناً باتجاه طائرات الإستطلاع المعادية في السماء. بعدها بوقت قليل، يأتي من يخبرنا بإغارة الطائرات على موكب السيد، والسيد وعائلته جرحى. لم يمضِ الوقت حتى أُخبرنا بشهادتهم. حينها وحينها فقط، أحسسنا بغياب أبي، وكأنها لحظة الأسر، وكأنها لحظة فقد كل حبيب، ويمكنني وصف اللحظة بالقول: الآن غاب أبي.