زينب صالح
وقف عباس بين الجموع ينتظر أخاه حسيناً الذّي قبل أيامٍ أخذه الى المستشفى ليعالج يده المصابة...
هو الآن قادمٌ بعد غيابٍ قصيرٍ.. لكن لا ليسأل أحداً عن أي شيء، بل لينام بصمتٍ باسماً طيلة السّنين..
وعبّاس ليس هنا ليصافحه، بل ليلقي عليه نظرته الأخية، وينزله برفقٍ في روضته في مشغرة، ويبارك لأوّل أمراءِ البقاع الغربيّ في الحقبة الجديدة، شهادته المباركة...
نظر الى يده التي أُصيبت قبل استشهاد "حسين" بأيّام، وتذكّر الحادثة؛ عندما جاء الخبر للأمّ أنّ ولدها عبّاساً قد أُصيب، ظنّت أنه استشهد، فقام حسين باحتضانها للتخفيف عنها قائلا": "تصبّري بالله يا إمي"..
لكنّ صوت عباس عبر الهاتف كان الدليل أنّه لم يقضِ بعد، عندما حضن بأمان صوته وسكينته لهفتها عليه قائلةً:
- بدي روح لعندك مطرح ما انت واطّمن عليك..
ليردّ بابتسامةٍ وسعت فرحتها :
-أنا بنفسي جاي لعندك يا أمي.. أنا منيح.. ما تخافي..
ولم تكن الإصابة مدعاةً لغيابه عنها في لحظات توتّرها، فعاد، على أن يذهب بعد ذلك الى المستشفى لعلاج يده.
لكنّ حسين، رغم العلاقة الأخوية المتينة بينه وبين شقيقه، لم يسعد بعودته جريحاً دون أن يكون شهيداً، فسجّل موقفاً شهيراً بضربه على الطاولة قائلاً:
- رجعت جريح بلا ما ترجعلنا شهيد..؟
بكرا بتشوف كيف رح كون أول شهيد بالبقاع الغربي.. وفعلاً.. استشهد حسين بعد 5 أيامٍ من عودة أخيه مصاباً (تكلّمنا عن الشهيد حسين في الجزء الأول).
ومنظر النّعش المرفوع فوق الأكفّ ليس بالأمر اليسير على قلب أخٍ حنونٍ عطوفٍ كـ"عبّاس"، خاصّة وأنّ مثل هذا العرس لم يحدث منذ فترة، رغم أنّ دماء الشباب تغلي مذ هبّت الأجساد والأرواح لقتال التكفيريين، والكل يترقّب من سيكون القربان الأول لتحرير القصير..
لم يعِ ماذا حدث، وكيف انطلقت روحه غير آبهةٍ بجموع البشر المتدفّقة من كل صوب، تريد المشاركة في التّشييع، وإلقاء النظرة الأخيرة على الشّهيد، علّ هذا الرّاحل يوصل سلام العشق الى من سكنوا السماء، فقال بصوتٍ عالٍ سمعه الجميع:
- هنيئاً لك يا أخي الغالي شهادتك.. فلئن سبقتني الى لقاء الرحمن فإنّي خلفك على الأثر.. بحقّي عليك لا تتأخّر في طلبي..
وفي بيت أهله، حيث الأم تبكي الفراق، قال عبّاس:
-الله اطّلع فينا واختصنا وأخد شهيد.. وبإذن الله يا أمي رح تصيري أم الشّهيدين.. ورح تتباهي فينا إدّام الزهراء.
فالشّاب العشرينيّ الذّي حلم أن يكون أباً، كان يتمنّى الشهادة ويعشقها، يحب الحياة ويعيشها دون أن تسكن بهجتها قلبه..
- شو رأيك فيني يا أُمي؟
- قمر يا حبيبي.. شو هالطلّة؟ الله يحميك يا رب..
-بشرفك يا أمي، مش واضح عليّ هيأة الشّهادة.. بشريني وقوليلي إنّك عم تدعيلي حتى استشهد..
فتأثّرت الأم وقالت:
- بفتخر فيكم يا حبيبي، بس بدعي استشهد قبلكم، قلبي ما بيتحمّل فارقكم أو تروحو قبلي..
لكنّ روح عبّاس لم تستطع البقاء أكثر في القرية، ولا انتظار اليد حتى تبرأ من جرحها..
فعبّاس حتى لم ينتظر مرور ذكرى الأربعين لأخيه، قبل أن يذهب الى الجبهة من جديد..
وحين أراد الذّهاب الى الجبهة من جديد، قالت له أمّه:
- ألا تريد أن تنتظر حتى تحضر ذكرى أربعين أخيك الشهيد؟!
-لا يا أمي.. احضروه أنتم نيابةً عنّي..
-لكنّ جرحي بفقد أخيك يهزّ منابع الوجع.. أوتذهب أنت أيضاً قبل أن يستريح القلب برهةً؟!
- أمّي.. مِن أجل مَن نحارب نحن؟ أوليس مواساة أم المصائب مأربنا.. هي فقدت جميع أهلها في يومٍ واحد، فما أجمل أن تواسيها بفقد ولديك..
وغاب عبّاس، دون أن يُرجع نظره الى الوراء، حيث تقف أمٌّ تتكئ على عصا الإيمان والصبر تارةً، وتجلس فوق كرسي الشوق والحنين تارةً أخرى، لتشعر أن مدلّلها يبتعد خطوةً خطوةً، تاركاً في كل مكانٍ أثراً وذكرى، تجعل منه صورةً حيّةً الى الأبد..
ولم تمض أيّام كثيرةٌ على ذكرى الأربعين للشهيد حسين..
ساعاتٌ معدودةٌ في رزنامة الزمن تلك التّي حملت عبر الأثير خبراً آخر..
ربّما أشدّ وجعاً وأكثر فخراً، أو ربّما ملحمة فداءٍ تكون مدرسةً شاءها الله في هذا البيت المتواضع في مشغرة..
- مباركٌ يا أمّ قاسم، قد أصبحتِ لتوّكِ أم الشهيدين.
- لقد استشهد عبّاس..