إيمان بشير
إذاً هي ليست المرة الأولى التي يخطئ فيها العدو التقدير، ويقدم على خطوةٍ لن تزيد الزائرين إلا حباً، والعزيمة إلا إصراراً، ولا ترتد على العدو إلا ضربات موجعة، اذ تفتح عليه أبواب النيران بدلاً من إغلاقها.
ولعل أبسط مثال على فشل أهداف العدو، زيارة المقدسات في العراق، الشاهد الأول على هذه العقيدة، التي لم تتراجع وتيرتها قيد أنملة منذ بدء التفجيرات التي طالت ولا زالت تطال الزوار هناك، القوم الذين تربوا على قاعدة "اقتلونا فإن شعبنا سيعي أكثر فأكثر".
أما تفجير دمشق فهو قصة أخرى، أبطالها مقاومون من نوع آخر، سنلقي الضوء على مقاوم منهم غاب عن مسرح العيون، وبقيت أعماله طي الكتمان عملاً برغبته، هو الشهيد "قاسم حاطوم"، الذي ارتقى في حافلة الموت في دمشق مع خمسة آخرين، ضحيّة الحقد والحب معاً، الحقد الأعمى الذي يطال مدنيين وزواراً حين يعجز العدو عن تسجيل خطوة متقدمة في الحرب، وضحية الحب في آل البيت والتمسك بزيارتهم رغم الأخطار.
لكن الشهيد قاسم سيكون محور الحديث هنا وقبلته، والبوصلة التي توجهنا، وهو الذي تمنى الشهادة منذ سنوات، لكن ليس اي نوع منها، لقد تمناها "أشلاء" تشبهاً بالعباس والحسين عليهما السلام.
"ما ردّ
الله طلباً لك يا قاسم.. نلتها كما طلبتها". يكفي أن تعرف الشهيد قاسم عبر ذويه
وجيرانه وأصدقائه، الذين
يحدثونك عن العطاء الذي كان يميزه قبل أي شيء، ويحدثونك عن إنسان متميز وفريد من نوعه
في حب ال البيت
(ع). كان المقيم الدائم للمجالس في العائلة،
والمتطوع فيها وصاحب الإصرار على تأديتها
وعدم الانقطاع عنها والمتكفل بمصاريفها.
حين يقول
أخ الشهيد حسونة حاطوم: "اني حزين لأن قاسم استشهد قبلي" ترى في دموعه الصادقة
شوقاً للشهادة،
وصبراً عليها، يُنسيك الحزن والمواساة الذي تودّ تقديمه، لتصبح مبتسماً فخوراً بأخٍ
سيكمل الطريق، وسينير
درب أخيه بشموع الصبر. يكمل الحاج حسونة حاطوم حديثه بابتسامة حذرة ترتسم على وجهه الصبور،
يجدد فيها الولاء للشهيد بكل فخر، وترى كفين واعدتين، فيهما استعداد جليّ للثأر على
طريقته الخاصة،
والبقاء متمسكاً بالزيارة مهما سعى العدو لإبعاده عنها.
امتاز الشهيد قاسم - الأصغر بين اخوته - بأعماله المتنوعة. شارك بإخراج أكثر من عشرين فيلماً، وعمل في العديد من الأعمال الحرة كالديكور وغيرها. ولم يقف عند حدود العمل الفردي، وأراد أن يندمج في البيئة الاجتماعية، فشارك في الأنشطة العامة، وكان دوره ثقافياً ومعطاءً. وشارك في تنظيم المسيرات وتشييع الشهداء. كما واظب على زيارة المقامات. ولم تكن الزيارة التي استشهد وهو في ظلالها المرة الأولى التي يذهب فيها الى سوريا لزيارة المقدسات. في المرات الماضية لم يكن قد أتى وقت الشهادة بعد، حتى ألهمه قلبه بالذهاب مجدداً، فعزم على الزيارة، ليأتي الإذن الإلهي في استجابة الدعاء، ولتكون تلك نهاية المسير.
قاسم المقرئ أيضاً، شارك في إلقاء اللطميات في المسيرات العاشورائية، وتنظيمها. كان يعمل بسرية شديدة، لا يعلم تفاصيلها إلا المقربون منه. يقول أخوه الحاج حسونة: لم أكن أعلم ما هو عمله تحديداً في المقاومة، فقد التزم السرية في العمل، لما فيه من مصلحة لنجاح هذا النهج، ولما فيه من إرضاء لله قبل العباد.
لكننا يا قاسم نعاتبك، لقد تركت في وجوه أخواتك اللواتي يسمينك "البطل"، فيضاً من عزٍ يرتسم على جباههن، حتى غادرنا وعبارتهن تتردد على مسامعنا: "حدثوهم عن البطل .. حدثوهم عن قاسم ".
وبعدُ،
لقد كان قاسم دليلاً إلى دماء الشهداء، وكان الدليل للسائرين على دربهم، الناهلين من
جهاده العزم والشجاعة.
لقد ترك قاسم بصمته في كل مكان. كلا، هو لم ينل الشهادة على الجبهة، لا حاملاً سلاحه العسكري،
ولا مرعباً الصهاينة. لقد أرعبت زيارته ورفاقه إلى المقامات المقدسة جيش لحد سوريا،
فاستجيب دعاء قاسم،
ونال الشهادة "أشلاء" كما تمنى.
لقاسم ثلاثة أولاد. الطفل الأصغر كرار يرقد جريحاً نتيجة تفجير دمشق أيضاً الذي ارتقى فيه والده شهيداً، وما زال يتلقى العلاج، أما الشاب الأكبر علي الذي لم يذهب مع والده الى الزيارة بسبب انشغاله في الامتحانات فكأن امتحاناته هذه أتت رحمة بالأهل، كي لا تخسر الأم زوجها وابنها معاً، ويبقى من نسله من يُكمل عنه السير في الطريق - كما أخيه الأصغر كرار - حين يكبر.