جلال شريم
عندما تدخل من رحابة حياتك القروية الى ضيق المعتقل تبدأ بالبحث عن طرق لتوسيع فضاء الزانزين علها تكفي احلامك وتحقق طموحاتك وتلبي احتياجاتك. ومن الاحتياجات الانسانية الاساسية البديهية الحاجة إلى الطعام والشراب التي لا تستقيم لبني آدم الا عن طريق الفم الذي حبانا الخالق إياه كي يشكل معبراً نحو بناء الجسد والحفاظ على صحته وقوامه القوي. وتصطف داخل الفم تلك الجواهر السحرية المسماة بالاسنان والتي شغلت الانسان منذ فجر التاريخ. ونظراً الى اهميتها الكبرى حجزت مكاناً بارزاً في غالبية الشرائع منذ بزوغ الفكر القانوني. ألسنا نقرأ الايقونة المنسوبة الى حمورابي: " العين بالعين والسن بالسن"؟ نعمة الأسنان بمستوى نعمة البصر.
هذه التساؤلات خيمت في فضاء زنزانتي الافرادية منذ اول يوم ولجت اليها وتذكرت انه عليّ ان انظف اسناني عند الصباح. ضحكت في سرّي وقلت: "هل أطلب من ذلك الشرطي الغليظ ان يُحضر لي فرشاة ومعجوناً كي أعود لتلك العادة الصباحية وكأنني امارس روتيني اليومي؟". تجاوزت الضحكة داخلي واصطدمت بالفضاء الضيق المعتم وعادت لترتطم باحلامي وتحطمها. لم اجد أمامي الا ابريقاً بلاستيكياً فيه نزر يسير من الماء فأخذت بفمي مقدار ملعقة ورحت اتمضمض به كي انظف اسناني بالقدر المستطاع.
بعد انتقالي الى زنزانة جماعية بدأت اكتسب الخبرات من المعتقلين القدامى ذوي التجارب المتراكمة. كنا نستلّ خيطاً من الثياب او الاغطية فيتحول الى "اداة" نخلل بها أسناننا ونزيل ما علق بينها من بقايا الطعام. وعندما تغير نظام الطعام في المعتقل كانوا يأتون بنوع من الفاكهة مع وجبة الغداء. وهذا ما فتح الباب أمام "أدوات" تنظيف جديدة للاسنان. فعندما تكون "التحلاية" تفاحة فإن القشة الصغيرة المعلقة بها كانت بمثابة كنز لا يُقدّر بثمن، فهي "أداة" جاهزة لتخليل الاسنان وتنظيفها. وعندما تكون "موزة" فإن كعبها القاسي نسبياً كان "منجماً" بحيث يتحول الى مسواك وفرشاة للاسنان لكن دون "معجون"، ولكنه كان يقوم بواجبه نسبياً. وعندما كان أحد المعتقلين المحظوظين يتلقى معجون أسنان من أهله خلال "الزيارة"(*) مع الأغراض التي كانوا يحضرونها إليه، فإنه كان مضطراً الى وضع كمية من المعجون داخل فمه ويحولها مع قليل من الماء الى غسول للفم فيتمضمض به، أو يضع قليلاً منه على إصبعه ويبدأ بفرك أسنانه بهذه "الفرشاة البيولوجية"، فالفرشاة الصناعية العادية كانت ممنوعة تحت حجة الخوف من أن يقوم المعتقلون بـ"حفّ" مسكتها (يدها) وتحويلها الى ما يشبه السكين!! لذلك كانوا أحياناً عندما يريدون إدخال فرشاة الى احد ما فإنهم كانوا يقومون بقصها وادخال رأسها فقط الذي يحوي الشعيرات المخصصة لتنظيف الاسنان. وهذه الحالة نادراً ما كانت تحدث.
وعند دخول الصليب الاحمر الى المعتقل في العام 1995 تحول وجود فرشاة الاسنان والمعجون الى شيء عادي. ولكن قبل ذلك عندما كان معجون الاسنان يدخل الى زنزانة فإنه كان بمثابة فانوس سحري يفتح أمام المعتقلين أبواباً كثيرة. كان المعجون حينها يأتي في انبوب من الالمنيوم وليس البلاستيك كما هو الآن، وما ان يدخل الى "الغرفة" كان الجميع يتخيلون لحظة انتهاء محتواه كي تسير "الفراغة" في الطريق لاحتمالات كثيرة: فهي من الممكن ان تُقص وتفتح كصفحة من ورق بعناية ودقة ويتحول وجهها الداخلي المصقول الى مرآة صغيرة كي يشاهد المعتقلون وجوههم وينسقوا هندامهم، وهذا ما حُرموا منه منذ مغيبهم عن "أول منزل". وهي من الممكن أيضاً أن تدخل في ورشة أخرى فتُحف الالوان التي تدمغها من الخارج باسم ماركتها حتى تُزال نهائياً ثم يتم لفها بحرفة ودقة وتُشد فوقها مجموعة من الخيطان حتى تتحول الى "مبسم" للسجائر.
وفي فترة من الفترات تحول عدد من المعتقلين الى "أطباء" يداوون زملاءهم الذين يعانون الالم في اسنانهم في ظل اهمال السجانين ولا مبالاتهم. وكانت إحدى تقنياتهم الاساسية في هذا المجال تقوم على تسخين "الشريطة"(**) الصغيرة أو إبرة حتى درجة "الحماوة" ثم يقومون بكي السن التي تؤلم المعتقل. وغالباً ما كانت هذه الطريقة تأتي بنتائج ايجابية. ولكن في إحدى الحالات سقطت الابرة المُحمّاة من يد المعالج وأصابت لسان "المريض" الذي أخذ يحمل ألمين داخل فمه: وجع ضرسه وحرق لسانه"! وغدت تلك الحداثة على قساوتها مادة للتندر بين المعتقلين.
(*) الزيارة: ويقصد بها الحاجيات والاغراض التي كان الاهل يدخلونها احياناً الى ابنائهم المعتقلين.
(**) الشريطة: ويقصد بها الشريطة الصغيرة التي ترُبط بها ربطة الخبز. وكان المعتقلون يحصلون عليها بطرق متعددة ولها عندهم استعمالات كثيرة. ولعلنا نستطيع في محطة مقبلة ان نخصها بالحديث.