زينب صالح
"لقد سبقتنا بيت ليف في تقديم الشهداء، والآن دورنا يا عمّي". صمت قليلاً وهو ينظر الى قريبه الجريح، ثمّ قال: "وأشعر أنّ الافتتاحية ستكون بنا نحن". وسرح فكره في ابنته التي لم يرها بعد، تلك التي ينتظرها منذ زمن، منذ أربعة أعوام من الزواج!
صعبٌ انتظاره لها في الأيام السابقة لمجيئها الى الحياة، ربّما أصعب من أربع سنواتٍ لم يشأ الله أن يرزقه فيها مولوداً، حتى جاءت تلك الساعة، في وقتٍ لم يتوقع أن يسمع خبراً يبشّره بأبوّةٍ قريبةٍ. في تلك اللّحظات، احتضن زوجته "فاطمة" بقوّة سيولٍ تأخذ في طريقها آلام تلك السّنوات نحو بحيرة سعادةٍ جميلة.
وأخيراً، سيطلّ مولودٌ يستقبله عند عودته من عمله، من مراتع الجهاد في سوريا ولبنان، ليقول له: "الحمد لله على السلامة يا بابا"، وسيطمئن هو أكثر بأنّ ابنه او ابنته سيغمر "فاطمة"، الزوجة والحبيبة، بالمحبة في كل الأوقات، وخاصة في تلك اللّحظات الصّعبة التي يغيب هو عنها.
بعد ولادتها زار صديقه الشّهيد شادي سعد، صديق طفولته وشبابه، ذلك القمر الذي سبقه الى الجنان في تموز 2006، وصار يتمتم له ببعض الكلمات: "آهٍ يا شادي، يا صديق عمري وطفولتي، كم كنتَ ستسرُّ لو أخبرتك عن ابنتي زينب الحوراء، وهي تبكي مستقبلةً الحياة. ليتك تراها وهي بعد لم تفتح عينيها..". ثم تنهّد قائلاً: "أعرف أنّك ترى وتسمع، أما نحن فمحجوبون".
- أريد أن نذهب الى منزلنا يا محمد.
- لكنّكِ تحتاجين الى العناية، فلم يمض أسبوعٌ على وضعكِ زينب الحوراء. ابقي في بيت أهلك ريثما أعود، فأنا ذاهبٌ في مهمّةٍ. سوف آتي الآن لأودّعك.
شعرت فاطمة بألم مفاجئ انتابها، وبرغبةٍ في البكاء. لكن، لماذا؟! فهذه ليست المرة الأولى التي سيودعها فيها! عليها أن تحافظ على زجاج السعادة سالماً الآن، وتنام على وسادة هذه النعمة الكبيرة.
- أريد أن نكون أنا وأنت في منزلنا مع ابنتنا التي انتظرناها منذ أعوام. أشتاق الى تلك السكينة وذاك الإحساس.
- خيراً يا عزيزتي. لن أتأخر أكثر من أسبوع. وفور ما آتي سأصطحبك الى المنزل. لا تقلقي. ستكون الحياة أمامنا، فلم العجلة؟
ثم نظر صاحبُ الوجه الجميل والطلّة البهيّة الى ابنته بين يديه وقال:
- أترين كم هي جميلة يا فاطمة وهادئة؟ ترى من ستشبه عندما تكبر؟
ابتسمت فاطمة والدمعة في عينيها، وسرعان ما تسارعت دقّات قلبها عندما وضع محمد من يديه ابنته في حضنها، ونظر في عينيها بجديّةً وحزم
قائلاً:
- سأذهب يا فاطمة، سأغيب لأسبوع مبدئياً، جهّزت لك أمورك، سيوصلك أخي نهار الاثنين الى عيادة الطبيب في صور حتى نطمئن على زينب الحوراء. والآن سأمضي.
لم تعرف لماذا تكلّم بهذه الطريقة السريعة، ولماذا وقف بهذه السرعة كأنّه يريد اختصار الوقت، ولماذا رغبت هي في البكاء كالطّفل الصغير، دون أن تقترب منه وتضمّه وتسأله البقاء معها او التخفيف من وقع هذا الألم المفاجئ على قلبها.
رأته يخرج من الغرفة سريعاً وبطيئاً. صورةٌ بالأبيض والأسود لا تستطيع إيقافها، حتى حرّك السيارة واختفى عن ناظريها.
وكان ليوم الاثنين طعم مرارةٍ مختلف عن أيّ يومٍ قبله، أضاف عليه أنّها ستذهب الى الطبيب مع ابنتها من دون زوجها. تمتمت في نفسها: "ترى بماذا تشعر زوجات الشهداء وهنّ يتولين إدارة الحياة وحدهن؟ أعانهنّ الله".
- هل اتّصل محمد بك يا فاطمة؟
سألها شقيق محمد وهو يوصلها مع زوجته إلى الطبيب. فبكت بصمتٍ كي لا يسمعا أنين دموعها وقالت:
- لا أعرف عن أخيك شيئاً.
- أين هو؟
- في لبنان، لكنّ هاتفه دائماً مغلق. أتّصل به كل خمس دقائق من دون فائدة.
في عيادة الطبيب الكثير من الأسى. آباء وأمهات يصطحبون أولادهم، وهي وحيدة مع ابنتها، ومحمد لا يرد، ولا تعرف إن كان بخير. عند الصباح شعرت فجأة بأن قلبها قد أصبح فارغاً، وهرعت الى صندوق الصدقة لتضع فيه ما يطمئنها قليلاً وعادت في المساء، حملت أمتعتها وأغراضها وقرّرت أن تذهب الى بيت عمّها ريثما يأتي محمد. وهناك، شعرت بحركةٍ غريبة، وكأن الجميع يخفي شيئاً ما.
لماذا ينظر الجميع في عينيها بعيونٍ حمراء لامست حدود البكاء؟ ولماذا يسألها الجميع عن أحوالها باهتمامٍ أكبر؟
بعد وقتٍ دخل الحاج أبو محمد. جلس بقربها، وبدأ يتحدّث مع زوجة ابنه البكر، "محمد" الشاب العشريني الذّي يزيّن شوارع عيتا بوجهٍ يحبّه كلّ بشرٍ وحجر، لأخلاقه العالية، وروحه المرحة، وصفاته التّي جعلت الجميع يعرف "محمد حيدر".
- منذ بدأت حقبة الجهاد الجديدة في الأماكن المقدّسة، ونحن نقدّم الشهداء. ما أجمل تقديم العزيز على منحر الشرف.
- نعم يا عمّي، شرفٌ كبيرٌ هو تقديم الشّهداء.
- وعيتا الشّعب لم تقدمّ شهداء بعد.
- نعم يا عمّي أعرف.
فقال برصانةٍ الدموع المختبئة في عينيه:
- لقد حبانا الله يا ابنتي شهيداً يفتتح قافلة النور في قريتنا للدفاع عن العقيلة زينب.
نظرت اليه بسكون، فقال:
- تهيّئي يا ابنتي، فغداً سنستقبل عريسنا محمداً، ليكون أول شهيدٍ لعيتا الشعب، "أم العز" في ملحمة الدفاع المقدّس.