عبد الرحمن جاسم
ملحوظة قبل القراءة:
اختار حزب الله مذ لحظة نشوئه طريقه الأصعب: فلسطين. ولا يبدو أن هذه الطريق سيتم الحياد عنها قريباً، لذلك وجب طرق هذا المقال من قبل "فلسطيني/عائد" (أي ولد وعاش خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة)، لأنني بطبيعة حياتي اليومية أعيش تجربة حزب الله كمشاهدٍ ومحللٍ وناقد، حيث إنني في النهاية لا أنتمي إلى الجسم الحزبي للحزب في حد ذاته، ما يتيح لي فرصة الحيادية العالية. لكن ورغم هذا فإنَّ ما يجمعني مع حزب الله يبدو واضحاً: فلسطين، لهذا كان وجوب القول إنه حتى الحيادية ههنا شخصية بحتة.
اختار حزب الله فلسطين منذ لحظة ولادته. هو عرف كاتجاه سياسي أن تلك اللحظة التاريخية هي الأصعب لانتقاء "هدفٍ" كهذا. في العام 1982 كانت البوصلة قد ضاعت، العالم على شفير هاويةٍ مخيفة، نظامٌ عالمي جديد يلوح في الأفق، ثلةٌ من الشباب المتأثر – كثيراً - بالثورة الإيرانية يقرر فجأة إقامة عداءٍ سافرٍ ومباشر مع الدولة الأقوى تقريباً في الشرق الأوسط: الكيان العبري. هكذا وبكل بساطة، بعنفوان الشباب، يقررون ان يخوضوا غماراً فشلت فيه جميع دول المنطقة قبلهم، متحدّين أموراً شتى كانت بطبيعة الحال وتلقائيته لا بد من أن تكسر أي حركةٍ وليدةٍ لو لم تكن من رحم الشارع نفسه. باختصار كان الوضع لا يشجع أبداً على "خلق" حزب الله، بالعكس كانت اللحظة مؤاتية لخلق حركاتٍ "تكفيرية" أكثر من التي نراها حالياً، بل إنها كانت لربما اللحظة الأمثل لخلق تلك الحركات، ولم تحصل وقتها، لربما لحسن حظنا.
يعرف الجميع تلك القصة كيف بدأت ثلة قليلة من المقاومين بعملياتها ضد الاحتلال الصهيوني للبنان، واستمرارها في ذلك حتى رحيله العام 2000. آنذاك بدأت أغنيةٌ جديدة: ماذا يفعل سلاح حزب الله في لبنان؟ عرفت الدولة العبرية أنَّه لا يمكن أن تخلع "سلاح" الحزب من يده إلا عبر "داخل" لبنان المثخن بجراحٍ مغايرة: طوائف متناحرة، سياسة مهترئة، فضلاً عن طاقمٍ سياسي فاشل ورديء بكل ما تحويه الكلمة من معنى. إذاً باختصار هذا هو الحل المناسب والوحيد لنزع السلاح من يد الحزب المنتصر.
بعيد الانتصار بيومٍ واحدٍ أطل أحد "المحللين" النبهاء على إحدى القنوات ليسأل بشكلٍ "وجيه": "ما فائدة سلاح حزب الله اليوم؟". لم يكن السؤال قد اشتهر بعد، ولم يكن أحدٌ قد طرقه من قبل. ففكرة السلاح كانت مشروعةً وللغاية طالما ان هناك محتلاً، لكن ماذا عن اليوم؟ بطبيعة الأحوال، كان هناك نسيانٌ تام لأن "العدو" ذاته لا يزال على بعد أمتارٍ قليلةٍ فحسب، لكن ذلك لا يهم، فـ "قوة لبنان في ضعفه". وخلال ستة أعوامٍ (حتى العام 2006) أُشعلت نارٌ هادئةٌ تحت "البلد" بأكمله. بات البلد يغلي، لكن ببطءٍ وأناة، كان الصهاينة (داخلاً أو خارجاً لا يهم) يعملون بكل ما أوتوا من قوة ضمن فكرة واحدة، بالإغراء واللين، بالقوة والتهديد: دعوا فلسطين لأهلها، دعوا فلسطين وشأنها، دعوا فلسطين وكفى!
يكمن سؤال البداهة ههنا: هل يستطيع حزب الله ذلك؟ الإجابة أكثر بداهةً بالتأكيد: لا يستطيع حزب الله القيام بذلك. سيخبرك أحدهم بأنَّ الحزب يمكنه القيام بذلك، لكن لا تصدق. لا تصدق ذلك البتة. إن الحزب لا يستطيع القيام بذلك لأنه بُني أصلاً على فكرةٍ واحدة: تحرير فلسطين كاملةً متكاملة ( لا غزة وحدها، ولا رام الله وحدها). يخطئ من يعتقد بأن حزب الله سيبقى كما هو في اللحظة التي يقرر فيها التخلي عن "فكرة" فلسطين محررة، ساعتها يصبح الحزب شيئاً آخر، وينفضّ المجتمعون حوله ليتفرغوا لأمورٍ شخصيةٍ بعيدة كل البعد عن فكرة "السياسة/الدين/العسكر".
إن حزب الله مربوطٌ بفلسطين أكثر مما يعتقد الجميع. إنها فكرة "أصل الفكرة" ومصدرها، قبل أي شيء. فالإمام الخميني بعد انتصار ثورته في العام 1979 تحدث عن فلسطين في خطابه الأول مباشرةً. كيف يمكن لحزبٍ يقول إن "نهجه خميني" أن يبتعد عن ذلك؟ إذاً الأمر بسيطٌ إلى هذا الحد. ولكن لماذا لا نبسطه أكثر بعد: في لحظةٍ ما، سيفرش الصهيوني/الأميركي/الخليجي (أو أي ضارب طبولٍ آخر) كل ما يريده الحزب ويحلم به أمامه، وسيرفضه الحزب دون أي نقاشٍ، دون أي تحليل، دون حتى مشاوراتٍ كثيرة: نحن نريد فلسطين حرة. بغير فلسطين حرّة فإن وجودنا "حتمي"، وبعد عودتها حرّة يكون "الوعد الإلهي" قد "تحقق" ويكون انتصارنا كاملاً.
تبقى نقطة واحدة لا يسأل عنها أحدٌ كثيراً، لربما لأنهم لا يحلمون مثلنا ولا يصدقون الوعد "الصادق" كما هو: ماذا بعد تحرير فلسطين؟ في ذلك إجاباتٌ أكثر وضوحاً وأكثر مباشرةً، لكن هذا يكون لمقالٍ آخر وموعدٍ أقرب.