الأراضي المحتلة - احمد جمال الدين
استفاقت قبل أن تنشق خيمة الليل. تحسست المجس الضوئي بفعل انقطاع التيار الكهربائي، وهمت تحمل حقيبتها منطلقة من محافظة خانيونس متجهة إلى مقر الصليب الأحمر غرب مدينة غزة، والناس نيام.
الحاجة نجاة الفالوجي، تلك السيدة الستينية، استقلت سيارة أجرة، وانطلقت تحمل في قلبها شوقاً فائضاً لرؤية نجليها (ضياء ومحمد الآغا) اللذين يقبعان خلف قضبان الاحتلال قبل أكثر من عقد ولم ترهما منذ نحو شهرين، فهي متعطشة للقائهما شوق الصحراء للمطر.
يجرف الحنين السيدة، فيدفعها لتدبر حاجاتها واستحضار مستلزمات الرحلة من ماء وطعام على وجه السرعة قبل أن تمضي حافلة نقل أهالي الأسرى المقررة أن تعبر معبر بيت حانون "ايرز"، انطلاقاً نحو سجنيهما داخل الأراضي المحتلة عام 1948.
لقد مر الزمن على رأس الحاجة الفالوجي أرملة المواطن "زكريا الآغا"، وهي تنتظر في الحافلة أمام بوابة المعبر من أجل السماح لها بالمرور لأكثر من ساعتين، بزعم الإجراءات الامنية الاسرائيلية ومحاولات الابتزاز الممارسة على المعبر الوحيد الذي يصل غزة بالأراضي المحتلة.
وعبرت السيدة الستينية عن استيائها جراء عدم الافراج عن ابنيها خلال صفقات الأفراج، رغم أن ابنها "ضياء" المأسور منذ 23 عاماً، كان من المقرر الإفراج عنه في اطار الدفعة الرابعة في صفقة السلطة واسرائيل، لولا أن الاخيرة تراجعت عن قراراها قبل أقل من عام.
وكان الاسيران ضياء ومحمد الآغا قد اعتقلا على خلفية قيام الأول في اكتوبر 1992 بتنفيذ عملية فدائية في مغتصبة "جانيتال" بمجمع غوش قطيف الإسرائيلي آنذاك ما أسفر عن مقتل ضابط إسرائيلي كبير كان قد شارك في اغتيال شهداء فردان القادة الثلاثة "كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار". أما محمد فاعتقل في مايو 2003 وحكم بالسجن 13 سنة و6000 شيكل غرامة مالية.
قبل أن تنطلق الحافلة يقوم موفدو الصليب الأحمر بتدقيق أوراق الدخول والتأكد من حمل البطاقات الشخصية، حفاظاً على عدم تعريض أي من الأهالي إلى المضايقات، رغم أن المضايقات وأساليب الابتزاز تعد شراً لا بد منه بالنسبة لأهالي الأسرى.
وفي رحلة كهذه لا تتخلى الأمهات عن زجاجات المياه، على ضوء ما يمكن ان يصنعه طول الانتظار من جفاف في حلوقهن، فترطب الحاجة الفالوجي ومن معها من السيدات الطاعنات في السن أو الرجال الكُهل الحلوق من وقت لآخر حتى يؤذن لهم بالدخول.
بإعطاء أمر الانطلاق يسير الأهالي وعددهم غالباً لا يتجاوز الستين شخصاً، مشياً على الأقدام مسافة طويلة تزيد عن مئتي متر داخل ممر أمني طويل توزعت كاميرا المراقبة على جنباته، فيما لا يلمح الأهالي أثراً لجند في المكان، وبخاصة أنهم يتحصنون بشكل غير مرئي.
بالانتهاء من قطع المسافة وبعد التدقيق من قبل بعض رجال الأمن الاسرائيليين المدنيين الذين يتحدثون العربية بطلاقة والمرور بأجهزة التفتيش الخاصة، تبدأ رحلة جديدة في التقاء الأحبة، حيث يركب الأهالي حافلة اسرائيلية جديدة، تقلاً كل منهم حسب السجن الذي يقيم فيه أبناؤهم المعتقلون.
محطة الحاجة الفالوجي الأولى تنتهي عند سجن بئر السبع، حيث يؤسر ابناها "ضياء" (محكوم 99 عاماً) و"محمد" (محكوم 12 عاماً).
هناك داخل السجن تبدو القصة أكثر ايلاماً ولوعة، فبعد أن تقوم مصلحة السجون بتجميعهم في ساحة واسعة، تبدأ بتقديمهم على شكل مجموعات بعد أن تحصل على تصريح الزيارة منهم.
تنادي المجندة على اسم الحاجة الفالوجي التي بالكاد تحملها ساقاها للنهوض عن المقعد والدخول في مرحلة جديدة من التفتيش الذي يكنّ فيه عاريات في بعض الأوقات، ومن ثم يسمح لهن بلقاء فلذات الكبد. ابنا الحاجة الفالوجي اللذان يجلسان خلف لوح زجاجي سميك لا يسمح بتدفق الحنين، لذلك يبدآن الحديث عبر جهاز الاتصال.
حينها، لا تستطيع أن تكبح جماح دموعها المنهمرة شوقاً لاحتضان الحبيبين، لكنها ستكتفي كما تقول بإيصال القبلات والسلام من خلف القاطع الزجاجي، وتبدأ في الاطمئنان على صحة ابنيها وظروفهما، وهي بدورها تعاود نقل جملة التحيات الحارة ودعاوى الجيران بالفرج العاجل وحنين الاصدقاء والأهل لرؤيتهما.
في المقابل لا تخلو المقابلة التي تمتد لـ45 دقيقة كما تقول الأم من التشويش المتعمد من مصلحة السجون على الزائرين بإحداث ضجة في المكان فضلاً عن التشويش الحاصل على جهاز الاتصال بفعل تسجيل مصلحة السجون الاسرائيلية للمقابلات بين الاسرى وذويهم.
تقول السيدة ذات الوجه القمحي: "إن المدة الممنوحة لنا لا تكفي لإخماد جذوة الشوق بداخلنا كأهالي أسرى يقبعون منذ عقود داخل السجون(..) رحلة اللقاء بالأبناء هي قطعة عذاب ممتدة تزيد عن15 ساعة".
وتوضح الأم، والدمع متحجر في عينيها، أن سلطات الاحتلال تتعمد أحياناً منع ادخال بعض حاجيات ومستلزمات أبنائهم الأسرى كالأغطية الشتوية، مشيرة إلى أنها تعود مع انتهاء الزيارة إلى منزلها منهكة في ساعات المساء ولا تقوى على فعل شيء على ضوء مشقة السفر.
يشار إلى أن هذه السيدة العجوز لا تتوانى عن المشاركة في اعتصامات أهالي الأسرى بشكل أسبوعي داخل مقر الصليب الأحمر بغزة، فضلاً عن أنها شاركت الأسرى في سجون الاحتلال أكثر من مرة الأضراب عن الطعام، الأمر الذي أدى إلى نقلها في احدى المرات للمشفى على اثر اصابتها بحالة إغماء.
وحول ممارسات الاحتلال يقول فؤاد الخفش مدير مركز أحرار لدراسات الأسرى وحقوق الإنسان: "إن رحلة الزيارة تتحول في كثير من الأحيان إلى رحلة إذلال للأسير وعائلته من خلال الإجراءات المصاحبة لهذه الرحلة. ولكن عائلة الأسير تحاول أن تغض الطرف عما تتعرض له من أجل رؤية نجلها الأسير".
وذكر الخفش أن كل هذه الانتهاكات تتم تحت نظر وأمام ممثلي الصليب الأحمر الجهة التي تقوم بنقل عائلات الأسرى للسجون وتنسق الزيارات دون أن يكون هناك موقف من هذه الجهة أمام الجانب الصهيوني، مطالباً الصليب الأحمر والمؤسسات الحقوقية الدولية بضرورة التدخل لوقف جميع مظاهر هذه الانتهاكات.