رجال الله واللون الأبيض (1)
زينب صالح
للثلج حكاياتٌ مع رجالٍ تحدّوا الصعاب فهانت عليهم تحديات الطّبيعة بكل أشكال عنفها.
وفي بلاد الشّام من أرزها الى شامها، للشّتاء مغامراتٌ تداعب ذكريات شبابٍ مجاهدين، وتجدّدُ تفاصيلها كلّما ارتدت التّضاريس ثوبها الأبيض، فاخترنا هنا بعضاً منها. يسرد القصص اليوم من لم يلتحق بركب الشهداء بعد، مضيفاً الى أرشيف المقاومة الكثير من خلود الصمود.
القصة الأولى
كان الشّباب الأربعة يرابطون في منطقةٍ ترتفع 1850 م عن سطح البحر. تقتصر تجهيزاتها على مدفأة غازٍ وبعض الخبز والمعلّبات، لصعوبة الوصول إليها. نام الشّبّان في ليلةٍ عاصفةٍ، على وقع صوت الرّياح القويّ في الخارج، وعندما استفاقوا عند الفجر للصّلاة، أرادوا الخروج من الباب من أجل الوضوء فلم يستطيعوا، إذ إنّ الثلج كان قد سدّ مدخل الموقع. توضؤوا من الماء المتوفر في الموقع، وناموا حتى الساعة الثامنة، وعندما استيقظوا، لم يستطيعوا فتح الباب من سماكة الثلوج. استطاع علي (اسم مستعار) التسلّل من النافذة. في الخارج منظرٌ لا يُنسى: ثلج يتساقط وضباب يحجب الرؤية، وانقطاعٌ عن العالم بأسره! بدأ علي بإزالة الثلج عن الباب ليتمكّن رفاقه من الخروج، إذ لا يستطيعون البقاء في المركز لوقتٍ أطول. وفي هذه الأثناء، كان الشّباب في غرفة القيادة في القرية المجاورة يحاولون التواصل معهم عبر اللاسلكي دون أن يتمكنّوا.
عندها، ابتعد علي عن رفاقه في المركز 20 متراً، وتواصل مع القيادة قائلاً:
- نحن جميعاً بخير، لكنّ سماكة الثلوج تبلغ متراً ونصف المتر، والضباب كثيف ويحجب الرؤية، لدرجة أنّنا لا نستطيع رؤية بعضنا البعض. نحتاج المساعدة، لأنّ الوضع اذا استمرّ هكذا، لا نعرف ماذا سيحدث معنا.
- هل تستطيعون المشي نزولاً نحونا؟
- مستحيل! الضباب كثيف يغطّي المكان ويحجب الرؤية! ولا نستطيع أن نترك المكان لأنّ فيه تجهيزات حسّاسة لا نستطيع تركها ولا نتمكّن من حملها بمفردنا.
- إذاً، سنحاول الوصول إليكم.
حاول الشّباب في القرية الوصول الى المركز عبر الاستعانة بجرّافة كبيرة تمهّد الطريق للعبور. وكلّما وصلت الجرّافة الى ارتفاع 1200 متر، توقّفت، ولم تستطع التقّدم أكثر. كذلك لم تستطع سيارات الـ"بيك أب" التقدم، فالطريق وعرٌ والثلج والضباب يعيقان الحركة، والمكان المقصود بعيد، يستلزم ساعتين للوصول اليه في الأحوال العادية.
بعد عدّة ساعاتٍ، وبعد تلاشي سبل الوصول الى الشباب المحاصرين، اتخذت القيادة قراراً عند الظّهر بضرورة المسير نحوهم وإنقاذهم، ولو مشياً على الأقدام، وهنا بدأت مغامرةٌ أخرى!
تطوّع 4 شبابٍ للمشي، لكن ليس على الطريق العادية بسبب سماكة الثلوج، بل عبر قطع طرقٍ فرعيةٍ حرشيةٍ وعرةٍ، لم يسيروا عليها من قبل!
بعد ساعتين من المسير، وعندما اقترب المشاة من الوصول الى النقطة المستهدفة، لم يستطيعوا التقدّم أكثر بسبب الضباب وتعذر الرؤية، فقرّروا التوقف لأخذ نصيبٍ من الراحة، قبل أن يعاودوا المسير من دون رؤية ترشدهم الى المكان أو الاتجاه!
اقترب المشاة من الموقع، وأخذوا يتكلّمون مع أصدقائهم المحاصرين عبر اللاسلكي.
- الى أين وصلتم؟
- وصلنا الى رأس الجبل. كيف نتّجه الآن؟
- اتجهوا نزولاً نحو المقلب الثاني للجبل، ستجدوننا على بُعد 100 متر.
- حسناً.
بسبب الضّباب، مشى الشباب نزولاً، لكن الى المقلب الآخر المعاكس لمكان وجود زملائهم، فبَعد مشي نصف ساعة، شعروا أنهم ابتعدوا عن رأس الجبل كثيراً دون أن يصلوا الى هدفهم.
ووسط الهطول الكثيف للثلوج وتدنّي الحرارة الى ما تحت الصفر، شعروا بالضّياع!
- يبدوا أنّنا ضعنا! لا نعرف أين أصبحنا، والثلج يتساقط بغزارة! ماذا سنفعل الآن؟
- اسمع! سنطلق النار في الهواء، كي تسمعوا الصوت وتحدّدوا المكان.
- حسنا، اتّفقنا.
بدأ الشّباب في النقطة بإطلاق النار في الهواء، فحدّد زملاؤهم المكان، واتّجهوا صوبهم، ووصلوا اليهم.
تلاقى الشّباب أخيراً. صار عددهم تسعة شبّان، فحملوا الأغراض والأجهزة، واتجهوا جميعاً باتجاه القرية، حيث وصلوا عند المساء بأقدامٍ زرقاء وجباهٍ تلهج بـ"الحمد لله"!
أتقدم بالشكر للقيمين على صفحة مشغرة التي تحكي حكايا الشهداء الراحلين. زينب