اكتمل العرس بالشهادة. حسن*: خلاصة الروح في دفاتر العشق. رجل الرجال على أرض النزال. في عينيه صلاة العارفين. قلبه تهجّد الربيع في مملكة العبادة. يتألق جمالًا إلهيًا، كلما دخلتَ إلى قلبه. في وجنتيه عطر الكروم، وحدائق الجنة. الملاك الشهيد المهدوي. الروح الهائمة كفراشة الضوء حين تحترق عشقًا للوصول. هو حسن. واسم الميدان "عمار". اختاره في مسيرته الجهادية، فكان اسمًا مصنوعًا بحبّات النجيع وطيف الضوء. هو الشهيد المخلص، العارف، المضحي والمرابط، العابد والزاهد والمتوكل، الصادق المجاهد من سادة القافلة، ومن سادة المجد.
حملنا أوراقنا ومضينا إلى جارة النهر، قعقعية الجسر(قضاء النبطية). وأنت تدخلها يفوح عبق ربيعها. تحاكيك بيوتها المجاهدة التي آوت المجاهدين والمقاومين. وأنت تدخلها يسكنك زيتونها. وهو يزهر ويزهر... كما بساتينها التي تحاكي النهر بشفاه الوله. وحسن "عمار" خبأ أسراره في صفحات النهر، الذي لطالما حفظ أسراره. وجهه، بندقيته، عبوته. والنهر يعرفه كما البحر. دخلنا إلى المنزل، وإذ بنا أمام هامة مضحية. إنها والدة الشهيد. وأنت تجلس أمامها يعتريك الخجل أمام عظمة العطاء. رحنا نسألها عن الشهيد حسن، عن طفولته، عن سيرته... اختصرته ببضع كلمات معبرات: منذ صغره كان حسن مطيعًا وحنونًا. كان يأتي إليّ يعانقني ويقول: "ادخلي في قلبي يا أماه". كان طيبًا وادعًا. تفتحت عيناه على الإيمان. كان يساعدني في كل شيء. أتذكر أنه أثناء الحرب الأهلية في لبنان، وعند انقطاع المياه عن الحي في بيروت، كان حسن الصغير يومها يذهب ويأتي بالمياه على عربة صنعها بيديه. كان ناشطًا في الكشاف، إذ بكشافة الإمام المهدي (عج) منذ صغره، إلى أن غدا قائدًا للأشبال، وقدوة ورمزًا لهم.
يتألق كلما ازداد عمرًا. ترك بيروت ليسكن في الجنوب، في بلدته، وليتابع عمله الكشفي، ثم التحق بالتعبئة العامة، وبدورات الاختصاص في المقاومة الإسلامية. حدثنا رفيق دربه الذي يسكنه روحًا وقلبًا أن الشهيد حسن تطوع في محور علمان - الشومرية، حيث كانت له المشاركات الكثيرة في هذا الثغر من ثغور المقاومة. بقي في هذا المحور الحيوي مشاركًا في مواجهات عدوان 93 و96، بالإضافة إلى مشاركته في كمائن محور علمان – الشومرية، برفقة الشهداء: قاسم عمار وأحمد سلامة ويوسف ريحان وغيرهم. كان حسن رائدًا في الكمائن والدوريات، شجاعًا مقدامًا، لا يعرف الخوف، بل يعرف "الشريط المحتل" وكيف ينصب كمينه، ويزرع عبوته، ويعود منتصرًا.
يضيف رفيق دربه: أثناء إحدى دوريات الاستطلاع، بمنطقة القنطرة (قضاء مرجعيون) جرح مع الشهيد حسن أحد الإخوة، فحمله مسافة طويلة وأنقذه. وفي مرة أخرى، ما بين القنطرة ووادي الحجير، يومها أغار الطيران الصهيوني على مكان وجود حسن، فنال كرامة الجرح وعاد جريحًا صابرًا محتسبًا.
الشهيد حسن سلامة سكن التراب المحتل، وراح يتقن ويتفنن في صنع النصر، وقتل عدوه، حتى في الحلم، وهو نائم، كانت العمليات وتفاصيلها هي الحاضرة. يقول أحد الإخوة: استفقت عليه في الليل وهو يوزع الأخوة ويعطيهم ارشاداته لتنفيذ العملية... وللشهيد حسن أكثر من 73 مشاركة، بين عملية وكمين ودورية وزرع عبوة.
الشهيد موسى أحمد قاروط "الشيخ ميرزا"
قبل الرحلة الأخيرة للوصال مع المعشوق، تقول والدته إنه اتفق معها ومع والده على عقد القران، وعلى موعد العرس الذي ينتظره الأهل والمحبون. وكذلك تم الاتفاق مع سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله على الموعد، ليبارك الزواج، على أن يلتئم الشمل ويجتمع في حضرته بعد مهمة أُوكلت إليه. تقول الوالدة: في اليوم الأخير، كان وإخوته في الجهاد، حيث اجتمعوا تحت "السماقة" وتناولوا طعام الغداء. وكان قد مضى يوم على استشهاد الأخ أحمد سبيتي من كفرصير المجاورة، قلت له: انظر يا حسن إلى هذا الشهيد، كيف سيصبر أهله على فراقه؟ فأجاب: وماذا لو أن ولدك التحق بالركب، فهل ستحزنين؟. عندها راح يحدثني عن السيدة الزهراء والسيدة زينب (ع) وعن أهل البيت (ع). كأنه كان يهيئ الأمور أمام الآتي.
كنت أوقظه ليلًا عندما يأتي رفاقه وراءه، أصنع لهم الطعام. في اليوم الأخير، كان معه الشهيد علي زهري "عبد الرسول" وعدد من المجاهدين، تناولوا الغداء سوية، وكانت فرحة عارمة تملأ قلوبهم. بعدها غاب حسن. موعد العرس يقترب. ذهبت إلى ابنتي وقلت لها: لقد تأخّر حسن. فقالت إنها رأته في المنام يقول لها: "ازرعي هذا الجب من الزعتر". في هذه الفترة كنت أتذكره دائمًا حين كان يقول: "ادعي لي يا أماه بالشهادة، وألا أقع في الأسر".
كانت العملية، عملية رب ثلاثين (قضاء مرجعيون)، وكانت الشهادة العظيمة، هو و"الشيخ ميرزا"، الشهيد موسى أحمد قاروط. يومها كانت المواجهة عظيمة بكل المقاييس: مئات الجنود في مقابل رجلين اثنين. في الأول من شهر رمضان. جاء الخبر. وقفتُ وقلت: اللهم تقبل مني هذا القربان. يومها مثّل الصهاينة والعملاء بالجسدين الشريفين، إذ تم ربطهما بالملالة وسحبهما في شوارع رب ثلاثين حتى بلدة العديسة المجاورة، وبعدها أبقياهما ثلاثة أيام في العراء، إلى أن تم دفنهما وديعة في فلسطين المحتلة، في ما عُرف بمقبرة الأرقام الشهيرة، ليعودا بعد واحد وعشرين يومًا. عاد حسن في ليلة القدر ليكتمل الجرح والشهادة مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، فكان الفوز عظيمًا، ورب الكعبة. وكانت الشهادة قد اكتملت في يوم العرس، حيث اقترب الموعد أكثر وأكثر، وكانت الجنة ممر الشهداء.
ينقل أحد المجاهدين ، أنه عندما أُصيب الشهيد حسن سلامة قبل استشهاده، صرخ بصوت عالٍ: فزت ورب الكعبة، فزت بالحُسنيين. فهنيئًا له ، يوم ولد، ويوم جرح، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيًا مزهوًا بختم الشهادة.
*الشهيد حسن علي سلامة "عمار" – مواليد قعقعية الجسر 1976 – استشهد في 09 كانون الأول 1999 في رب ثلاثين.