الخروج إلى المخيم (16 والأخيرة): مبادرة حزب الله والقرار الصعب
الأسير الفلسطيني ثابت مرداوي
تحرير: عبد الرحمن وليد
المقاومون في مخيم جنين في بداية المعارك
نحن الذين كنا داخل الحدث لم نكن نعلم حجم التفاعل الإعلامي والشعبي مع قضيتنا، ولا مع أحداث مخيم جنين ومعاركه، إلا بعد حوالي نصف ساعة من اتصال الأخ جمال حويل وحديثه عبر الفضائيات، فقد توقف هدير الجرافات والدبابات الصهيونية وسكتت أصوات محركاتها وخبت مصابيح الإنارة الخاصة بها.
فوجئنا واستغربنا كثيرًا. كنا سبعة وعشرين 27 مقاوما، منهم كاتب هذه السطور. ظننا أنها خدعة من الجيش، حتى اتصل بنا أحد الإخوة مبشرًا بأن هناك خبرا عاجلا على قناة الجزيرة مفاده بأن حزب الله يعلن عن مبادرة فورية لإطلاق العقيد "الحنان تننباوم"، مقابل أن تطلق قوات الاحتلال المحتجزين والمحاصرين في المخيم. انتهت الساعة التي متنا فيها آلاف المرات خلال اليوم الأخير من الاجتياح، ودبت فينا الحياة وتعالت هتافات الله أكبر وعادت المعنويات تلامس عنان السماء.
ليس هناك ما هو أكثر انشراحا للنفس وإسعادا لها من أن تمد إليها يد العون المساعدة، ويدفع اليها بقارب النجاة في اللحظة التي شارفت فيها على الموت. كانت مبادرة الإخوة في حزب الله يد العون والمساعدة الوحيدة التي مدت إلينا، وقارب النجاة الوحيد، الذي إن لم نركبه في ذلك الوقت، لكن أرواحنا استظلت بفيء شراعه بعد نار الخذلان العربي. كذلك كانت المبادرة - قبل كل شيء - ترجمة لاستجابة الله عز وجل لتضرعنا ودعائنا إياه.
مع أن المبادرة لم تر النور لكن قناعتنا، والله أعلم، أن بعض قلوبنا لم تحتمل التمحيص والابتلاء، وظنت بالله الظنون، لذا ندعوه أن تكون فترة سجننا الآن تكفيرا عن ذنوبنا وضعفنا أمام اختبار ذلك اليوم.
الشهيد محمود طوالبة والأسير ثابت المرداوي في جولة قتال
اتصالات متعددة
بعد علمي بالمبادرة تحدثت مع الدكتور رمضان شلح، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، مستفسرًا عن حقيقة الأمر. وبعد أن أكده لي راح يستفسر كعادته عن جميع التفاصيل وأدقها، وعن وضع الإخوة فردا فردا، وعن معنوياتهم.
منه علمت بأن عملية استشهادية حدثت، ووصلت إشارة من سرايا القدس تتبنى فيها العملية، وتذكر جميع تفاصيلها. كذلك فإنه لا ينسى بأننا استسمحنا قيادتنا في الخارج، لأنها كانت قد أوصت بمنع مشاركة بعض الإخوة في المعارك حفاظًا عليهم، لأن عنوان اجتياح المخيم كان هؤلاء الإخوة، لكنهم لم يستطيعوا تنفيذ توصية قيادتهم.
طلبنا من بعض الجهات تدخل مؤسسات دولية، مثل الصليب الأحمر، لتسمح بإحضار الطعام والماء وبعض الإسعافات للمصابين. بعد ساعة عاودت الاتصال بالدكتور رمضان الذي أبلغنا بتحية سماحة السيد حسن نصر الله، وأن سماحته يشد على أيدينا ويقف إلى جانبنا في معركتنا هذه.
لم أشأ أن أسال الدكتور رمضان، أثناء حديثي معه، عن رأيه في أن نقاوم مع عدم جدوى ذلك، أو أن نسلم أنفسنا، وذلك خوفا من أن لا نستطيع الاستجابة لطلبه ورأيه، كما لا نريد أن نحمله مسؤولية اعتقالنا إذا كان رأيه في الاتجاه الآخر. مع اعتقادي أني لو سألته لكان رأيه متروكا لنا ولطبيعة الظروف والموقف عندنا.
مع مرور كل دقيقة كانت فرصتنا في النجاة والخلاص تتضاءل، لأن الأمور تشير إلى إخفاق الصفقة، وأننا نسير باتجاه السجن وليس نحو الموت، بعد جملة التطورات السياسية.
اللحظات الأخيرة
الساعة تشير إلى الرابعة فجرًا في اليوم الأخير للاجتياح. لم نتخذ قرارا نهائيا، والتناقض في الآراء والمواقف بدا جليا. في النهاية، تم الإجماع والموافقة على الخيار والرأي الأول. بأن نسلم أنفسنا.
بلا شك، فإن القرار اتخذ في لحظة ضعف وعجز عن فعل شيء. لا نعلم هل هو صائب بعد كل هذه المعارك في أيام الملحمة التسعة. حاولنا المماطلة والتأخير في الخروج، لكن أي تطور لم يحدث. بعد الساعة الثالثة من صباح يوم الخميس 11/4/2002 كان لا بد من الخيار- القرار الصعب، فخرجنا.
انتصار وألم
طُلب منا أن ننزع ثيابنا كاملة، ونرفع أيدينا إلى أعلى. رفضنا ذلك وتوصلنا إلى حل وسط خلعنا بموجبه الجزء الأعلى من الثياب، ولم نرفع أيدينا، وهذا ما عددناه إنجازا وانتصارا في لحظتها. لم يبق نوع من أنواع القهر والمرارة والحسرة الا وحوته أنفسنا ونحن نسير محاطين بعشرات من الجنود الصهاينة، وعيوننا ضاربة في كل اتجاه مودعة المخيم، وملقية عليه نظرات الوداع. في المقابل، كان هو يرسل هواءه الندي العليل، ليلامس وجوهنا لعله يزيل عنها هذا الحزن والألم ويواعدها على اللقاء من جديد.
غطوا عيوننا بالعصابات، وكبلوا أيدينا إلى الخلف، ووضعونا في عرباتهم التي سارت بنا إلى المجهول ومعارك جديدة غير مرئية، لأنها تدور هناك تحت الأرض، وفي أقبية التحقيق الصهيوني.
سأحاول إكمال شهادتي عن المعركة وذكر بعض الروايات التي ظلت مخفية، لكننا في كل مرة نتواصل فيها يصادر مني جهاز المحمول في السجن ما يجعلنا ننقطع لأشهر. أرجو أن نراكم أحرارًا ونرى فلسطين حرة.