في أوائل العام 1989، كنت تلميذًا في الصف الثانوي الثاني. كان عمري حينها 18 عامًا، حين كان وحش الحرب الأهلية ينهش وطني، والوحش الصهيوني ينهش جنوبه. في يوم 28-2-1989 حضر إلى المدرسة أحد مسؤولي العملاء "ز.ش."، واقتادني بسيارته إلى مركز أمن العملاء في عيترون (قضاء بنت جبيل)، حيث خضعت للتحقيق على يد العميل "ع.ق.". تم التركيز على مستواي العلمي ووضعي المعيشي، ووضع إخوتي في بيروت وعلاقاتهم ونشاطاتهم الحزبية. في نهاية الأمر قدم لي العميل "ع.ق." عددًا من الإغراءات المادية في حال موافقتي على التعامل معهم في "سبيل حماية أمن المنطقة"، كما قال، وذلك بالاستفادة من موقع أحد إخوتي في حزب مقاوم؛ لكنني رفضت لرغبتي في "الابتعاد عن الأحزاب والحرب". بعدها أعادوني إلى بيتي في نفس اليوم.
بعدها بأسبوع، وتحديدًا في 8-3-1989 حضر العميل نفسه، "ز.ش."، إلى البيت، وطلب مني مرافقته "لمدة عشر دقائق..." كما هي العادة. خارج البلدة تم تسليمي للعميلين "ب.ت." و"م.أ."، حيث تم نقلي إلى معتقل الخيام. بدأ التحقيق معي – كما يحصل مع سائر المعتقلين - بأنواع التعذيب الجسدي والنفسي. وُجّهت إليّ تهم قيل إنها "خطيرة" و"تمس أمن المنطقة". في ختام التحقيق عرض علي المحقق "أ.ف." التعامل معهم، على أن تؤدي استجابتي إلى تخفيف التهم الموجهة إليّ، لكني رفضت مجددًا.
بعد ذلك ببضعة أيام، فُوجئت باقتيادي إلى غرفة التحقيق، حيث كان هناك شخصان أحدهما المحقق والآخر تبين لي أنه المسؤول الأمني لبلدتي "م.أ."، والذي طلب مني التعامل معهم،, وعندما رفضت أيضًا، غادر المسؤول الأمني المذكور، وحينها هددني المحقق بأنهم سيعتقلون أمي إذا أصررت على رفض ذلك. وفي الحال تسابقتْ الى مخيلتي صور أمي التي دخلت في عقدها السادس، وهي تعاني من أمراض عدة، خاصة في ظهرها وعينيها... لكني لم أبالِ ليقيني بأن ذلك يدخل ضمن وسائل الضغط والتعذيب النفسيين. ولكن بعد أيام، حصل ما لم يكن في الحسبان، وبالتحديد يوم 21 آذار 1989، يوم عيد الأم، حين أفقنا صباحًا في المعتقل، وأخذنا نتبادل التهاني في الزنزانة ومع المعتقلين في الزنازين الأخرى بتلك المناسبة، وإذ بشرطي يأتي ويقتادني إلى التحقيق.
في الطريق أوقفني. أدار رأسي إلى جهة معينة، همس في أذني :"انتبه، ركّز، لكن إياك أن تنطق بكلمة، سترى الآن شيئًا مهمًا". رفع العُصابة عن عينيّ لمدة قد لا تزيد عن ثانية وأعادها بسرعة. يا لهول ما رأيت في تلك اللمحة: أمي معصوبة العينين، مكبلة اليدين، تبدو عليها آثار التعب والإنهاك. كانت ثانية من الزمن، لكنها ستبقى معي مدى الزمن: أرى أمي بتلك الحالة أمامي... يا للهول... يا للكارثة... جذبني الشرطي إلى إحدى غرف التحقيق. كان فيها العميلان: المسؤول الأمني "م.أ."، والمحقق "ع.ج."، وهنا بدأت سلسلتان: واحدة من الترهيب، والأخرى من الترغيب:
- أمك هنا، أنت هنا، تهمك خطيرة. أمك شريكة لك. سنسوّد ملفك، ونرفعه إلى الإسرائيليين حتى تبقى أنت وأمك هنا مدى العمر.
- لكن إذا تعاملت معنا سنأخذكما الآن إلى البيت. سنعطيك ما تشاء من راتب. سنساعدك على متابعة دراستك الجامعية.
هنا نترك الحكم للتاريخ والوطن والضمير الحي ودعاة حقوق الإنسان: فتى في الثامنة عشرة من عمره، لم يجرب مشاق الحياة، يرى أمامه أقسى أنواع الترهيب، وأجمل أنواع الترغيب، فماذا يفعل؟ هل ينقذ أمه؟ هل يغتنم الفرصة؟ هل يخون شعبه ووطنه ودينه ومبادئه؟ أم يترك أمه تواجه الذل والهوان؟ ويواجه هو الفقر والعوز؟ ويكون وفيًا لوطنه ومبادئه؟ لكن "للأسف"، فإن ذلك الفتى كان مشبعًا بالمبادئ الوطنية، جاهلًت بما سيحمله المستقبل، ولم يعلم بأنه سوف يأتي يوم، يبحث فيه البعض في لبنان عن عذر للعملاء بحجة الفقر والإهمال؟ (وحجته أقوى) أو بحجة الضغط والإجبار؟ (ولا حجة أقوى من حجته). لم يعلم أنه سيأتي يوم يُقسّم العملاء فيه إلى أنواع وفئات ورتب ومهن ووظائف، وهو يعلم أن العميل - مهما كبر أو صغر- سيساهم في المجازر والقتل والقصف. ويعلم بأن وشاية، مهما صغرت، قد تقتل العشرات وتسجن غيرهم لسنين، لا يعلمها إلا الله. لم يعرف أنه سيأتي يوم يصبح فيه الوطني والمقاوم هدفاً للتهم والشائعات والتهاويل، بينما بعض دعاة "الوحدة الوطنية" سيهبون للدفاع عن خائني الأرض والشعب والدين، ويشجعون اللبنانيين على التعامل مع أي عدو في المستقبل، ما دامت خيانته مبررة وعقوبته مخفضة والمدافعون عنهم كثرًا.
يا للأسف، فإن ذلك الفتى "الوطني" ضحى بحرية أمه وحريته. وضحى بمستقبله إذ تركه فريسة لوحش الفقر... رفض التعامل مع العدو، وها هو الآن يعد العدة لوضع نفسه في تصرف أي دولة أجنبية تبحث عن عملاء لها، إذ رأى أن نتيجة خيانة الوطن مريحة مربحة، لا يلقى صاحبها جزاءه العادل.