الخروج إلى المخيم (15 قبل الأخيرة): أين محمود طوالبة؟
الأسير الفلسطيني ثابت مرداوي
تحرير: عبد الرحمن وليد
أين محمود...؟ يا شباب هل رأى أحدكم محمود أو يعلم عنه شيئًا؟. يسأل الأسير ثابت مرداوي. لقد استشهد محمود مساء الإثنين 08-04-2002، قبل عملية الثلاثة عشر جنديًا، وقبل عملية راغب جرادات في حيفا.
أدركت الآن سر تلك النظرة الغريبة، التي نظر بها محمود إليّ، في اليوم الخامس من الاجتياح، وهو يهم بمغادرة حي الدمج قاصدًا حي الحواشين. كعادته، رفض إلا أن يبقى في المقدمة، وحيث يكون الخطر. عندما غادرنا طوالبة لم يبحث عن مكان آمن أو حتى من أجل الراحة، بل ليتمركز في موقع لا يقل خطورة وغليانًا عن الموقع الذي كنا فيه.
اختار المحور الأكثر خطورة في "الحواشين"، حيث تمركز في منزل يدعى صاحبه أبو طالب، في الزاوية الجنوبية الغربية من الحي. وكان هذا المنزل مطلا ومسيطرا على أهم المداخل والأزقة المؤدية إلى الحي من الجنوب والغرب. بفعل القصف المكثف والعنيف لهذا المحور لم يكن أمام جموع المقاتلين إلا التراجع.
أسد المخيم يستشهد
على عكس ذلك، رفض محمود وإخوانه الأبطال عبد الرحيم فرج وشادي النوباني وإياد أبو الليل التراجع والانسحاب من الموقع، وأصروا على الثبات والصمود. تذكرت ذلك القسم جيدا. في زنازين التحقيق قال لي أحد المقاومين إنه قبل حوالي ساعة من استشهاد ثلاثة منهم: "أخذت لهم بعض الطعام ليتناولوه قبل المغرب، وكانوا صائمين، وأبلغت محمود بأن جميع الإخوة في المحور قد تراجعوا، وقلت له: ما رأيك لو تراجعتم قليلا حفاظا على حياتكم؟ فقال لي: إننا قد تعاهدنا على الشهادة، وأقسمنا بالله ألا يدخل الصهاينة الحي وأن لا يمروا إلا على جثثنا".
يكمل الأخ لي: "رجعت إلى بقية المقاتلين وبعد لحظة قصيرة حدث انفجار ضخم داخل المنزل الذي كان فيه محمود، ولا أعرف إن كانوا قد تناولوا طعام إفطارهم أم استشهدوا صائمين. إياد أبو الليل وحده الذي نجا من الانفجار لأنه كان جالسا أسفل مطلع الدرج".
الحصار المطبق
صار واضحا أن الجرافات عمدت إلى تجميعنا في مكان واحد ومحاصرتنا فيه، وذلك للقضاء علينا دفعة واحدة، وهي الطريقة الأكثر إمتاعا لهم وإرضاء لجنونهم. وسط جزيرة من الدمار والخراب، ومع أننا نعلم بأن لجوءنا إلى المنازل المتبقية يعني مواجهة الحصار الأخير، رحنا نتداول الاقتراح تلو الاقتراح من دون الوصول إلى نتيجة.
لم تبق فكرة مجنونة تخطر على بال بشر إلا وفكرنا بها، ومن جملة ذلك أن نحدث ثغرة لفك الحصار علينا، وذلك بالهجوم جميعا باتجاه واحد مطلقين النار صوب كل ناحية. لكننا اصطدمنا بجرافة صهيونية أعادتنا أدراجنا.
حاولنا على شكل مجموعات صغيرة التسلل من دون جدوى. آخر هذه المحاولات عندما أردت، والمقاومين علاء فريحات ومحمد النورسي وعمر الشريف، التسلل لكن رصاصة قناص استقرت في عنق النورسي (ابن كتائب شهداء الأقصى) صعد إثرها شهيدا، فجعلتنا نتأكد أنه من المستحيل أن نتمكن من فك الحصار.
كمية الرصاص المتبقية قليلة، ولا تكفي لاشتباك يدوم خمس عشرة دقيقة، مع ذلك رحنا نبحث عن جنود لنشتبك معهم وننهي الموقف على طريقتنا. العجيب أننا لم نلمح جنديا واحدا لأن الطوق كانت تفرضه ثلاث جرافات، ومن خلفها عشرات الدبابات والمدرعات.
ما إن تأكدت جرافات الاحتلال أننا جميعا داخل المنازل الثلاثة، حتى بدأت هدمها علينا، بعد أن سوت بقايا المنازل المحيطة. ثم عمدت إلى تجميعنا داخل منزل واحد، بعد أن هدمت بعض أجزاء المنزلين الآخرَين.
الشهيدان محمود طوالبة وطه الزبيدي والأسير ثابت مرداوي
(كاتب سيرة ملحمة جنين)
كانت تلك الجرافات تتحرك بصورة دائرية، في عملية استعراض واضحة، وكنا نشعر بأنهم يريدون إماتتنا مرات ومرات، قبل أن نتجرع كأس الموت الأخير بهذه الطريقة الكريهة. بلغت القلوب الحناجر وتوقفت أنفاسنا في مجاريها وعطلت عقولنا عن العمل. سلمنا برضى لقدر الله ورحنا نتضرع إليه سبحانه وتعالى أن يرد هذا القدر عنا. لكن حزنا عميقا كان يحز في النفوس ومبعثه أن كثيرين منا خاضوا أعنف الاشتباكات، وأطلقت عليهم آلاف الرصاصات والعشرات من الصواريخ وقذائف "الإنيرغا" ولم يلحق بهم أذى، ولم يستشهدوا.
أما الآن وهم على هذه الحال، فإن الشعور بالضعف والعجز عن أي عمل مجد يجعل الموت صعبا. لقد صاروا يتمنون ظهور جندي واحد ليفرغوا فيه ما تبقى من ذخيرتهم، ويحصل بعدها ما يحصل!.
فجأة تذكرت أن معي بطارية جهاز محمول (جوال) إضافية مشحونة بالكهرباء، ادخرتها لساعة الصفر، ولم نستخدمها حتى عندما فرغت البطارية الأولى، مع أنني- أحيانًا - كنت بحاجة إلى إجراء اتصال. في كل مرة هممت باستخدامها- سابقا- كنت أقنع نفسي بأنه ربما تمر علينا أوقات صعبة، نكون فيها أحوج إلى إجراء الاتصال.
قلت للأخ جمال حويل: "معي جهاز اتصال وبطاريته مشحونة، فما رأيك لو أجرينا بعض الاتصالات؟". وافق فورًا، وقال إن ذلك يمكن أن يساعدنا. فعلا اتصلنا مع القنوات الفضائية وشرحنا لها وضعنا، وأن الجرافات تحاصرنا، وهي على وشك أن تدفننا أحياء، وكنا آنذاك 27 شخصًا...يتبع 16 والأخيرة - مبادرة حزب الله والقرار الصعب