افترشنا الأرض بعد أن امتلأت مقاعد المنزل. وبدأ الحضور يتكاثر. حتى لم يعد هناك مكان يتسع لواقف ولو على رجل واحدة. سألت نفسي: ما سر القارئ حتى اجتمعت في مجلسه هذه الحشود الغفيرة. لم أكن قد استمعت إليه من قبل، وإن كنت أعرف والده القارئ الحسيني منذ زمن بعيد، وأستأنس بمجالسه كثيرًا. السيد القارئ شاب في متقبل العمر. سنه قريب من أعمار شهداء الدفاع المقدس، الذين تخطى عددهم المئات، فكانوا حيث يجب أن يكونوا ... وكفى. وقبلهم شهداء التحرير وحرب تموز وكل ملاحم المقاومة في لبنان.
بدأت السيرة تتلى. أبيات من النعي الحسيني، الذي تضج به جعبة الشعراء العرب منذ الكميت ودعبل والسيد الحميري والحلي وصولًا إلى الجواهري ومظفر وووو .... لا تنفك تلك الأبيات تستدر الدموع، وتأخذ السامع إلى فيافي كربلاء، حيث تطايرت رؤوس وارتفعت فوق القنا نظرًا، وفوق التعلق والأنا والخوف والقهر، شأنًا وخلدًا. أخذنا الخطيب إلى مشهدين كربلائيين:
الأول، حين وصل النعي به إلى ذكر الحسين(ع) وهو مثخن بالجراح، يجود بنفسه، وإذ به يضع يده تحت خاصرته فتمتلئ دمًا. نزيف شديد سببه سهم لئيم. يرفع الحسين الدم يخضب به وجهه ولحيته ويقول: هكذا أقابل جدي رسول الله. هذه الحادثة - ينقل الخطيب – تكررت مع أحد شهداء المقاومة في لبنان، وتحديدًا في حرب تموز 2006، حين أصيب أحد المقاتلين في خاصرته تحديدًا، وكان ينزف في مكان ناءٍ عن أي مسعف أو منقذ. شاهد بعض الرفاق الموجودين الشاب العشريني يضع يده تحت الجرح، فلما امتلأت دمًا خضب بها وجهه ولحيته وردد: هكذا ألقى رسول الله (ص) والإمام الحسين وزينب والزهراء(ع).
على هذا المشهد علق الخطيب الحسيني: هؤلاء الشباب قرأوا الحسين وفهموه جيدًا. كانوا معه فكان معهم. أنّا لمحتضر أن يفعل ما فعله هذا الشاب!؟
المشهد الآخر، يعود إلى أجواء معارك المقاومين هذه الأيام ضد التكفيريين. كانت معركة شرسة جدًا. أحد المقاومين المحاصرين في مكان بالغ الخطورة، يتصل بوالدته يقول: أماه عديني أن تتصبري كزينب. عديني أن تكوني قوية. عديني ألا تشمتي بنا عدوًا، أو يسوء حزنك قريبًا. فأجابت الأم والرجفة تأخذ من صوتها: لن أقول لك يا ولدي إلا " الله معك". يعلق الخطيب: هذا المشهد أليس له دليل كربلائي؟ بلى، فحين هم الحسين(ع) بالخروج الأخير إلى المعركة قبل استشهاده. نادى نداء المشتاق إلى أصحابه المتحسر عليهم: من ذا يقدم لي جوادي؟ فسمع هاتفة من خلفه تقول: بلى، أنا يا ابن أبي وأمي. كانت تلك عقيلة الطالبيين، شقيقته زينب(ع). تقول زينب مخاطبة الحسين: هل رأيت أختًا أقسى مني تقدم جواد المنية لأخيها.
ليست هذه قساوة من زينب، إنها رباطة الجأش التي تحلت بها هذه المرأة الجليلة، فقارعت طواغيت زمانها بالحجة والمنطق، وسط كل هذه المصائب العظيمة التي حلت بها، محاطة بآلاف الشامتين والحاقدين، حتى إنها أثارت إعجاب ابن أخيها، علي بن الحسين، زين العابدين(ع) فالتفت إليها بعد خطبتها في مجلس يزيد وقال: لله درك يا عمة، أنت عالمة غير معلّمة، فهِمة غير مفهمة".
تلك كربلاء التي يستطيع المرء أن يقول إنها سرت في شرايين الأمة كل هذه السنين، ولكنها لم تجرِ فقط شعائر ولقلقة باللسان، بل كانت منارة للأحرار والثائرين. خرجتُ من المجلس وأنا أثني على القارئ، وأردد في نفسي: أحبُّ المجالس إليّ تلك التي لا تصور لي كربلاء أسطورة، بل قدوة تقتدى ونهج حياة.