... تقدم الإخوة الثلاثة. تناول كل واحد منهم لوح شوكولا، أزال عنه غلافه، أمسك آلة فحص الألغام بيد، واللوح بالأخرى، وبين قضمة صغرى وأخرى، كان يتحرك إلى الأمام مع آلته باحثًا عن الألغام.
حين اقترب مني أحدهم، عرفته. إنه حسام ابن قريتنا. تلاقت نظراتنا فأشار إليّ، بحركة من يده على شفتيه، أن أصمت. خاف أن أسلم عليه ربما، وأن أذكر اسمه الحقيقي، أو ربما لم يرد أن يعرف أحد بأن أحدنا يعرف الآخر. تبسّم بعدها فتبسمت. ابتعدت عنه موجهًا بندقيتي نحو السيارة العسكرية الإسرائيلية التي وصلت إلى الجهة المقابلة من الحدود، حيث اتخذ عناصرها الوضعيات القتالية موجهين بنادقهم صوبنا.
بدأت الألغام تظهر من تحت الأرض. كنت أتعجب من الشبان الثلاثة: يتناول أحدهم اللغم كأنه يتناول حبة بطاطا يستخرجها من الأرض، يضغط على جزء من اللغم لتعطيله، ثم يرمي به جانبًا. استمروا في عملهم حتى صارت المساحة الفاصلة بين غرفتنا وبين الشريط الحدودي الشائك خالية من الألغام. بعد ذلك غادر الشبان الثلاثة برفقة الشبان الذين جاؤوا معهم، وبقينا وحدنا نحن الثلاثة.
منذ أن أزال الإخوة الألغام المحاذية للشريط الشائك بين لبنان وفلسطين المحتلة، أقام العدو نقطة مراقبة دائمة، ولم تعد دبابة ميركافا تغادر النقطة ليلًا أو نهارًا. وصارت حيطتنا أكثر وحركتنا أكثر حذرًا. كانت التعليمات تمنعنا من الحديث مع العدو، أو الرد على شتائمهم التي يرمون بها نحونا بلغة عربية مكسرة.
في يوم من الأيام وصل أخ جديد إلى النقطة، اسمه الجهادي "جهاد"، ليحل محل أحمد. وكأنما أراد عناصر العدو أن يثيروا خوفه أو غيظه، فكان كيفما توجه حول النقطة وجهوا مدفع الميركافا نحوه. لم يخف جهاد، ولم يغتظ، قال لنا: "شو مطولة معهن؟". دخل إلى الغرفة، تناول قاذف (B7) وخرج. ما إن وجّه القاذف نحو الدبابة حتى توارت والجنود خلف الساتر الترابي. ومن يومها لم يعد عناصر العدو إلى تصرفاتهم السابقة.
عمل جهاد الأساسي كان في الصواريخ. لكنه التحق بنقطتنا لأن لديه إجازة من هذا العمل، ولا يريد البقاء في البيت. قال لي: "أسأم من البقاء في البيت. تعودت على الطبيعة، الجبال، الوديان، البندقية، الزي العسكري. صار "تغيير الجو" عندي الانتقال من نقطة الصواريخ إلى أية نقطة أخرى تابعة لاختصاص آخر". حدثنا عما يُسمح له أن يخبرنا به في ما يتعلق باختصاصه: أنواع الصواريخ، مدياتها، تجاربه في عدوان العام 1996 على لبنان، وكيف كان ورفاقه يقصفون المواقع والمستعمرات الإسرائيلية. كان حديثه شيقًا، دافئًا في نوبات الحراسة الباردة، وكانت خيالاتنا تسرح مع كلامه، تعبر الحدود مع صواريخه، نحو فلسطين المحتلة.
في بعض المرات كان جهاد يطلب أن يتولى الحراسة الليل كله عنا. كان يحب الليل، ويقضيه مدندنًا بقصائد شعرية ترثي الإمام الحسين أو قصائد تتحدث عن المقاومة اختارها، وحفظها، من دواوين محمود درويش وسميح القاسم وغيرهما.
التفت إلى محدثي، لمحته دامعًا. أزاح وجهه محاولًا إخفاء ما فاضت به عيناه. لم أشأ أن أزعج هذه اللحظات، فتصنعت الانشغال بأمور أخرى. عاد والتفت إليّ، بعد أن تغلب على دموعه وقال: هكذا مرت الأيام جميلة وسريعة في مرابطتي الأولى. مع كل التجارب التي مررت بها، لتلك الأيام وقعها الخاص... تمت