قدر لي أن أزور لبنان قبل أحد عشر عامًا، حينها كان الجنوب اللبناني وخط الحدود الفاصل مزارًا لكل المارين على هذا البلد المفعم بالإرادة والمدجج بالصمود. كان لا بد لعيون الزائرين أن تتأكد كيف طوى جيش، كان يقول ذات يوم أنه لا يقهر، هزيمته ورحل للأبد.
في الطريق إلى بوابة فاطمة وسجن الخيام كانت تصطف على جانبي الشوارع صور كبيرة لقوافل الشهداء، التي فتحت لنا ولكل الزائرين هذا الطريق الطويل. الذين وضعوا أجسادهم جسورًا قائلين لنا: هيا اعبروا ... وعبرنا. كانت صور الشهداء تذكرنا بالثمن الكبير الذي دفعه حزب الله على طريق الحرية، في ذلك البلد الصغير والضعيف، حسب ما كان الجميع يطلق عليه، قبل ظهور الحزب. البلد الذي اعتاد الجميع أن يحشر أصبعه في أنفه، وإذ به يفاجئ الجميع بأنه قد غرز أصابعه في عيون أعدائه حد الإدماء.
بين أيار الهروب المهين، الذي احتفظت به الذاكرة العربية كمشهد طال انتظاره، هروب الغطرسة الإسرائيلية، وأيلول الانتفاضة الفلسطينية أقل من مئة يوم، بينها خيط من الإرادة التي كان لا بد أن تربط وأن تستفيد من تجربة التاريخ. فحين انكسرت هيبة الإسرائيلي كان لا بد أن يتقدم الفلسطيني، بما يملك من ثقة بالنفس وحلم بتكرار تجربة ماثلة أمامه، فقد تقهقر الغازي بالصوت والصورة والبث الحي المباشر.
هكذا قالت إسرائيل، وهي تفتش عن أسباب الانتفاضة الفلسطينية التي كانت تحرك الأرض تحتها: "إن الفلسطينيين رأوا في تجربة حزب الله الطريق التي يمكن تقليدها للتخلص من الاحتلال". وهكذا كان، حين أطلق قادة الانتفاضة الأوائل تسمية " انتفاضة الاستقلال"، وبغض النظر عن قدرتهم على تقليد تجربة المقاومة اللبنانية، وأين نجحوا وأين أخفقوا، لكن الحقيقة قالت إن حزب الله قدم النموذج.
هل أكمل حزب الله مسيرة ثورة لم تكتمل، وخرجت من بيروت قبل ثلث قرن، أم أن الفلسطينيين يكملون مسيرة حزب الله؟ هذا ليس مهمًا هنا، لكن ما هو مهم هذا الترابط الكبير بين الدم والدم ضد عدو مشترك، فما إن رحلت المقاومة الفلسطينية عن بيروت، بعد حصارها الطويل، حتى اعتقدت إسرائيل بأن لبنان أصبح خاليًا، فيأتي صوت الرد عاليًا من الشهيد أحمد قصير، بعد أقل من مئة يوم أيضًا قائلًا: لن نسمح لصولجان المقاومة بأن يسقط، وتبدأ رحلة الثمانية عشر عامًا من العمليات التي نفذها فدائيو الحزب، إلى الدرجة التي لم تعد معها إسرائيل تحتمل، لتصبح المطالبة بالانسحاب من لبنان شعارًا واقعيًا تحمله الأمهات الإسرائيليات، اللائي لا تردن أن يحترق أبناؤهن في جحيم الجنوب، ويتحول ذلك إلى شعار إيهودا باراك الانتخابي في حملته العام 98، واعدًا الصهاينة في فلسطين بسحب جنوده في غضون عام من لبنان، وقد فعل.
كان الفلسطينيون يتابعون ما يجري في إسرائيل، والنقاش الدائر حول لبنان وضرورة الانسحاب، وكانوا يسألون: " كيف يمكن أن يتكرر هذا النقاش في ما يخص الأراضي الفلسطينية. وهنا كانت كلمة السر بأن يكون الاحتلال مكلفًا للمحتل، وهي معادلة بسيطة بنخبة مستعدة للتضحية بنفسها، من أجل الوطن بالشهداء. ولا شيء مستحيل، فقد انتصر الشهداء بين بساتين الليمون والزيتون في جنوب لبنان، وعلى القافلة الفلسطينية أن تستعد للمسيرة، وقد كان، لولا الخلافات الفلسطينية، والانقسامات التي عصفت بفصائل المقاومة، وإلا لكان الأمر مختلفًا جدًا.
انسحبت إسرائيل من غزة في العام .2004 كانت لغة المقاومتين الفلسطينية واللبنانية أكثر ثقة بنفسها، لتخلص دراسة من أحد مراكز الأمن القومي، بأنه نشأ انطباع عند العرب بأن إسرائيل تهرب فقط بالقوة، وخلصت أيضًا إلى أن إسرائيل بحاجة إلى حربين كبيرتين على هاتين المنطقتين لاستعادة قوة الردع. وقد كان هناك في لبنان في 2006، وهنا في غزة بعدها بعامين؛ لكن ذلك لم يعط للكيان الغاصب ما أراد، فعاد إلى غزة مرة ومرة، ولا زال لبنان حاضرًا في كثير من مداولات قادة الأمن في إسرائيل.
في الحرب العدوانية الأخيرة على غزة هذا العام، كان جنرالات إسرائيل يقولون إن المقاومة الفلسطينية تطبّق نموذج حزب الله تمامًا قبل ثمانية أعوام، سواء لناحية الصواريخ أو الأنفاق، وكان السؤال: إذا كانت غزة الصغيرة والفقيرة تحفر أنفاقًا في العمق الإسرائيلي بهذا الشكل، فأين وصلت أنفاق حزب الله؟ وهو سؤال لا زال يشغل المؤسسة الأمنية والعسكرية هناك.
الشهيد اللبناني الذي يحتفل به في الحادي عشر من تشرين الثاني، هو رمز الفداء وهو درس التاريخ في الانتصار على إسرائيل، والنموذج الذي يتجسد معانقًا شهداء فلسطين، الذين تزدان بهم شوارعها، ونحن نسير ونلقي عليهم التحية والإجلال، كما فعلنا هناك في الطريق إلى الخيام.
كاتب فلسطيني - غزة