من مدينة العنفوان والعزة. من أرض البطولة وعصور التاريخ. من أبجدية قدموس. من المداد والقلم من قلب أحيرام...
أطل البطل...
من آثار المدينة القديمة التي تتوارثها الأجيال تاريخًا وكرامة. من مشاتل التبغ وكفاح الأرض وترابها المجبول بالدماء. من عرق الفلاحين في وقت حصادهم سنابل القمح. من ضحكات الطفولة البريئة. من "صُور" الأبية التي قاومت الاحتلال عبر العصور وأنبتت رجالات المقاومة...
من جرح الظلام، أطل البطل...
في صبيحة ذلك اليوم من شهر تشرين الثاني، بعد خمسة شهور على الاجتياح الإسرائيلي وسقوط عدد كبير من الشهداء والجرحى إلى جانب المعتقلين، اكفهرت سماء تلك المدينة، بعد أن احتل العدو قراها وشرد وأذل أبناءها، وانتشر في كل زاوية من شوارعها يستبيح ممتلكاتها وٍمياهها وأراضيها. فتغيرت ملامح المدينة التاريخية، وتوقفت أجراس كنائسها وأصوات مآذنها. هدأ بحرها عن هيجانه، حتى اعتقد الناس أنه شارف على الموت، فذبل الزهر ويبس الشجر واحتضرت الحياة فيها.
لكن شبلًا من أبناء قرى صور المناضلين، الذين قهروا الإسكندر المقدوني بصمودهم أراد إرجاع الحياة إلى مدينته. فسار بسيارته "البيجو" المفخخة، متحديًا جبروت العدو وهيبته، مستقبلًا الموت بابتسامته الهادئة، ليفجر نفسه بمقر الحاكم العسكري للعدو الصهيوني، فيهوي المبنى بأكمله وتهتز المدينة من هول ذلك الانفجار الضخم، لتتصاعد معه سحب الدخان الأسود وتغطي سماءها بلون الموت، وتتناثر جثث العدو في الهواء ويلملم جرحاهم التي لا تحصى، فيتعلم العدو في ذلك اليوم درسًا لا ُينسى.
فتحت تلك العملية الاستشهادية بابًا كبيرًا للعمليات الاستشهادية، التي روعت العدو وهزمته شر هزيمة في كل أنحاء الجنوب ولبنان كافة. فُحُفر اسم ذلك الشهيد العاملي، ذي الثمانية عشر سنة، في عقول اللبنانيين والعالم أجمع؛ وربط اسمه، بعد أن بقي مجهولًا حتى 19 أيار 1985، بيوم شهيد حزب الله، بعد ان أعلنه السيد حسن نصر الله في احتفال كبير لتكريم شهداء المقاومة الإسلامية في بلدة الشهيد، دير قانون النهر، حيث كشف النقاب عن تلك العملية، وعن اسم منفذها؛ فرفعت لافتة حديدية في مدينة صور، كتذكار يؤرخ اسم أحمد قصير، فاتح عهد استشهاديي المقاومة الإسلامية في الجنوب اللبناني.
منذ ذلك اليوم، وقفت "صور" وقفت عزة وأباء، وانحنت إجلالًا لذلك الشهيد العاملي، الذي صنع بداية تاريخ المقاومة الإسلامية، وكان فاتح عهد استشهادييها، وملهم الآلاف من شهدائها ومجاهديها على مدى 3 عقود وأكثر. بورك أحمد قصير ورفاقه والسائرون على نهجه.