لا أزال اذكر لحظات ولوجي الى تلك الزنزانة المظلمة التي تحمل الرقم (17) في معتقل الخيام، حيث استقبلني بوجهه البشوش وابتسامته الناعمة التي تعبر عن حسن ذوق وأخلاق. كانوا ثلاثة في الداخل. عرفتهم بنفسي فازدادت ابتسامته إشراقًا عندما علم بأنني من "حولا". ثم ضحك وقال: "اكيد بتعرف بيي ويمكن مارق من تحت ايدو.. انا عبود خليل عبود ابن ابو عدنان المطهِّر...".
ضحكنا جميعًا وتابعنا حوارنا. سألني عن رقم الزنزانة التي كنت بها قبلًا، وعندما أجبته هز برأسه وقال : "مع فلان... هذا عميل زنزانة. يجب أن تنتبه هنا...".
كرت الايام وكنا نتقاسم شظف العيش وقهر السجن وظلم السجان، ولكن كانت الزنزانة على ضيقها عالمنا الرحب الذي نحلق فيه. كنا كل يوم نكتشف جديدًا عن بعضنا، حتى اكتشفت فيه موهبة كتابة الشعر، فكانت فاتحة للكثير من التحليق في عالم المعاني البعيدة عن واقع المعتقل.
كنا نتبادل بعض ما كتبناه، وكنا نجري مباريات تحدٍ في الشعر. كنا أحيانًا أيضًا نطرز على اغطية الفرش الإسفنجية بعض الالعاب كالداما والشطرنج، وكانت تدور المباريات الحامية.
الشهيدان عبود عبود وبلال السلمان
في أحد الأيام، استفقنا صباحًا على جلبة كبيرة وصوت أبواب المعتقل تفتح وتقفل بكثافة. كانت هناك جولة من التبديلات الروتينية التي كانت تتم عبر نقل المعتقلين من مبنى إلى آخر، أو من زنزانة إلى أخرى. كان نصيبنا طيبًا يومها.
إنضم إلينا الأسير البطل بلال السلمان. وقف عند باب الزنزانة من الخارج نظر إلي ناداني باسمي فتفاجأت. لم أعرفه أول الامر ولم أتذكره. عندما دخل الى الزنزانة عرفني بنفسه، وكيف كنا زملاء دراسة قبل اعتقاله. ثم كرت سبحة الذكريات.
بدخول بلال الى الزنزانة اضيفت اليها نكهة جديدة، فهو أقدمنا في الاعتقال، وصاحب خبرة متراكمة، صرنا نستفيد منها وننهل من معينها عند الحاجة. كنا نعقد جلسات السمر وتبادل المعلومات والذكريات بين الحيطان الضيقة وتحت الظلمة الخانقة.
لا زال أذكر يوم حدثنا بلال عن كيفية تلقيه خبر استشهاد شقيقه عماد في عملية للمقاومة في وادي السلوقي. كان يتكلم بانفعال ممزوج بالفخر والغصة، وأنا أنظر إليه صامتًا أتوجس. لاحظ ذلك فسألني عن السبب، فقلت إنني كنت خائفًا أن أحدثه عن أخيه عماد خشية ألا يكون قد علم باستشهاده.
الشهيدان الشقيقان عماد وبلال السلمان
بعد فترة أدت وشايةٌ إلى نقلي مع بلال السلمان إلى زنزانتين أشد ضيقًا وأكثر ظلامًا. وضعوني في الزنزانة رقم ثمانية، وبلال كان "القبر" من نصيبه، وهو كناية عن الزنزانة التي تحمل الرقم خمسة. كانت مقفلة بإحكام، بابها حديد (صاج) بأكمله، ولا توجد فيه شبكة ولا ثقوب، سقفها من الباطون عكس الزنازين الأخرى التي تمتلك سقفًا مؤلفًا من شبكة من القضبان الحديدية التي تسمح لبعض النور بالولوج إليها. كانت الزنزانة رقم (5) غارقة في ظلمة قلوب السجانين. كانت أشبه بقبر حقًا.
... توالت الأيام، وإذ بي أسمع خبر استشهاد الأسير بلال السلمان، من بلدة مركبا، أثناء انتفاضة معتقل الخيام البطولية بتاريخ 24-12-1989. بعدها بحوالي أربع سنوات، وبالتحديد في 13-9-1993، وأثناء مسيرة وصلت تحت جسر المطار في بيروت، والتي تم تنظيمها احتجاجًا على اتفاق أوسلو، سمعت نبأ استشهاد عبود عبود...
الآن، تمر بذاكرتي خيالات هذين البطلين فأقول: لقد قتلوا مرتين!!ويأتيني التصحيح: لقد أُحيوا مرتين...هنيئًا لهما.