كان الرجل نبيلًا، جليلًا. كان يتهرب من لقاء الحسين بن علي كما يهرب من ضبابية معرفته التي تشكلت في ظل حكومة بني أمية. كان يدرك جيدًا بعد عشرين سنة عاشها في ظل تلك الدولة بأن الوقوف بوجهها مستحيل. كان زهير لدى دخوله السوق، ينتقي من الفاكهة أشهاها، ومن الثياب أجودها ومن العسل أصفاه. لم يعد ثمة شهيًا في السياسة، ولا جيدًا في الحكم، ولا صافيًا في الإدارة.
كان زهير جوادًا مقدامًا، وفي الوقت عينه خجولًا. لم يكن يريد لقاء الحسين فارغ اليدين. فإما أن يكون كل زهير للحسين أو لا يكون. لم يكن زهير مدركًا ما في جعبة الحسين من عرض يجعله يفضله على ما هو عليه من جلالة قدر واتزان سلوك. لم تكن ثورة الحسين واضحة المعالم لزهير. فعين زهير كانت تبصر مجتمعًا إسلاميًا غير لائق بإمامة أحد من أهل البيت.
فكّر زهير: ما الجديد الذي يقود الحسين اليوم إلى العراق، حتى ألاقيه وأسير معه؟ الكوفة؟ المشروع خاسر سلفًا، حتى لو خضع الكوفيون له، فقيادتهم دونها عقبات جمة، وقفت بوجه علي والحسن من قبل. المجتمع والبيئة مريضتان لدرجة أن إصلاحهما ضرب من الإعجاز.
وقف زهير أمام خيمته، بعد أن وصله أن الحسين يطلب رؤيته. أمسك عقال فرسه، وأطرق في الأرض مفكرًا. يفحص التراب بطرف حذائه، وينظر إلى الخيوط التي تصنعها الرياح البسيطة في تلك الرمال: ما الذي سيطلبه الحسين مني؟ أمشي معه إلى الكوفة لأكون من جنده، ولأشهد على خيانة المجتمع له ولآل بيته؟ هذا ليس بجديد عليّ.
الحسين لا يطلب لنفسه، فما الذي سيطلبه لنا؟ ولي؟ وأنا الحاج المعتمر والتاجر وذو المال الوفير من نعمة الله، وصاحب السمعة الحسنة الطيبة الواسعة الانتشار الذائعة الصيت؟ ضاع زهير. لكن يبقى أن الطالب هو الحسين، ولا أقل من أن ألبي ابن رسول الله، مهما يكن في الأمر من جهاد للنفس.
ركب فرسه، وكزه وهرع إلى فسطاط الحسين. وصل الفسطاط، خفق قلب زهير. نزل من على فرسه على مهل، وكأنما سيدوس بقدميه ترابًا من الجنة. أحس بأنه ينزل على محمد بن عبد الله(ص)، وكأنه يأتيه اليوم مسلمًا بعد شرك. ترك عقال فرسه، ومشى إلى باب الفسطاط. أشار إليه غلام على الباب بأن يدخل. نادى بصوت العالم الجاهل، ودخل على استحياء قائلًا:
- السلام عليك يا أبا عبد الله.
- وعليك السلام يا ابن القين.
قال الحسين، الذي كان ينتظر زهيرًا عند الباب. تعانقا، غاب زهير في رائحة رسول الله. نظر الحسين في وجه زهير مبتسمًا، وغارت عينا زهير في ملامح محمد في الحسين.
- يا زهير، إني اخترتك رفيقًا لي في سفري إلى سيادة أهل الجنة...
تحطمت كل الأحجار التي تراكمت على قلب زهير، وتلاشى تعب 30 سنة من طلب الشهادة بأبهى حللها، كما يطلب من الفاكهة أشهاها، ويختار من العسل أصفاه.
- سأقتلُ مع الحسين بن علي في ساحة واحدة؟ في ساعة واحدة؟ وأرافقه إلى جنة واحدة؟ وأدخلها بيده؟.
لم ينطق زهير ببنت شفة. فقط، ابتسم وأشرق. عرفَ الحسينُ زهيرًا، والآن عرف زهيرٌ حسينًا. أغمض زهير عينيه المغرورقتين بدموع الجائزة المقدمة سلفًا وابتسم. استأذن كي يذهب للتهيؤ للانضمام إلى ركب الحسين. خرج زهيرٌ ولما يفارقه ذلك الاستبشار البتة.
- فوالله يا أبا عبد الله لو أن الدنيا لنا باقية ونحن فيها مخلدون، لآثرنا النهوض معك على البقاء فيها... زهير بن القين البجلي.