لم يكن موعدًا عاديًا، لم تكن زيارة عادية. لم يكن لقاء بإحدى الشخصيات السياسية أو الملوك أو الرؤساء أو الوزراء أو... كان ضربًا من الخيال، أو لربما طيفًا من الحلم. هكذا عبّرت رفيقة الرحلة الخاصة.
أهلًا وسهلًا. الموعد غداً عند الساعة العاشرة. أنهى ضيفنا مكالمته. فبدأت عقارب الساعة بلادتها. لحظة تلو لحظة بدأنا ننتظر الآتي .
دقت الساعة الثامنة. أدير محرك السيارة والوجهة الجنوب اللبناني، حيث يقطن ضيفنا أو من نحن ضيوفه. شقت السيارة طرقات الجنوب، وعيوننا ترصد ورودًا أينعت في تموز ٢٠٠٦ وما بعدها. وصلنا مقصدنا. رايات حزب الله والجمهورية الاسلامية ترفرف بحرية الطير الذي يزقزق من شجرة إلى أخرى. استقبال حار. سؤال من الضيف عن أي وسيلة إعلامية نتبع، وعن أسمائنا والقرى التي نتحدر منها. عرّفت الصديقة عن هدف المقابلة ليبدأ التسجيل.
تبدأ العدسة باستراق أجمل اللقطات: من البوح بين السطور والبحث في ذاكرة الماضي. ملامح الوقار والهيبة بدت على وجه الرجل الثمانيني، ذي اللحية البيضاء، صاحب الصوت الدافئ، الذي يحملك إلى نقاء جبال عامل.
قوة وعزيمة وروح الفكاهة، كلها امتزجت لتشكّل سيلًا من الأسئلة التي تدفع اي صحافي للغوص أكثر فأكثر:
بدأ حياته قوميًا سوريًا عروبيًا، يناضل في أزقة الكرنتينا. تزوج، أنجب أطفالًا، كان بعضهم ليس كباقي الأطفال. كان حديثه مفعمًا بالشغف تجاه ابنه البكر. كيف لا؟ وقد رأى علامات تدعوه لتوسم الخير الكثير في مستقبله.
حديث مليء بمكنونات القلب، وكأنه الغوص في غمار البحار، حيث اللؤلؤ المغمور بشغف الحب. تذكر لحظات الولادة. تذكر طفولته التي لم تكن تشبه طفولات أترابه، سوى انه يهوى لعب كرة القدم، وما عدا ذلك تبقى الكتب رفيقته في كل الأوقات، فأمسى قارئًا نهمًا يهوى الدرس والمطالعة والبحث عن كل جديد. تذكّر الأب تلك المعلمة الأرمنية التي أعطت ابنه دروسًا في اللغة الإنكليزية، لتتلو صلواتها الخاصة(باسم المسيح ...) على نية موهبته: إنه طفل بارع. تعلو على محيا الأب ابتسامة الفخر والثقة بطفله الذي يكبر أمامه.
البحث في الذاكرة يحمل الكثير من القصص الجميلة والمثيرة. وحدها تلك القصة جعلت الرجل الملائكي يدمع وتختتق الكلمات في الحنجرة، لتعود قليلًا إلى الخلف، فيسترجع عنفوانه ويلفظها: أراد ابنه أن يبتعد عنه. أن يبدأ حياة جديدة. لا حبًا في مال أو شهرة، بل حبًا في استكمال العلوم الدينية. تفاجأ الأب: من أين أحضر لك يا ولدي مالًا يوفر لك السفر إلى العراق؟ أربعة عشر عامًا فقط من عمر الابن، لن تمنعه من شق سبل العلم وسبر الأغوار لاستخراج ثقافات وعلوم دينية. طمأن الفتى والده: لا تقلق! فقط، كان يرغب بأخذ بركته وموافقته ليستكمل نضاله الذي بدت واضحة معالمه منذ تلك اللحظات.
نزل الفتى إلى صور، حيث التقى بأحد العلماء فأعطاه أربعمائة ليرة تكلفة السفر ذهابًا وإيابًا إلى العراق. ربما ظن بأن الغربة ستعيده سريعًا فيصرف النظر عن طموحه، ويشده الحنين إلى حضن الوطن والأم. هنا ارتجفت الأحرف في حنجرة الوالد، وتلألأت حبيبيات الدمع تحت النظارات وتحت النظارات. تسللت الكلمات من فمه الوردي المتعب من سني الحياة، فمع صغر سن فتاه، أعطاه ثمن تذكرة العودة، قائلًا له: لن أستخدمها الآن، وأنتم إليها أحوج في هذه الظروف القاسية.
ما أعظم هذا الفتى. حتى في لحظات الترحال كان يشده الواجب لتحمل أَوْلى المسؤوليات .
يشتاق الأب لابنه الأكبر. يتمنى في أسطر قصائده أن يكون شيئًا معلقًا به، لا يمكن الاستغناء عنه كالهواء والماء. يحن إليه في كل الأوقات. تدغدغه الذكريات إلى الطفل الذي يحدو اليه، فينام بحضنه. لكن الحقيقة والواقع تعيدان ما "سُرق" منه من تحنان، ليعوضها بمحبة الناس إلى بعضه بل إلى كله. فكل الآباء أصبحوا أباءً لابنه البيولوجي، وكل الأبناء أصبحوا يرنون إلى قلب ابنه كأب رؤوم، يظلل في ساعات الحيرة والضياع. كيف لا؟ وهو سيد السادات وقائد الانتصارات. إنه بكلمة مختصرة والد الأمين على الدماء. إنه عبد الكريم نصر الله، أبو حسن.