شيء ما دفعه الى الاستيقاظ باكرا والمضي للبحث عنه.
مرّت أيامٌ وهم – في فريق الهندسة - يبحثون في جبل الباروك عن جهاز التنصّت الإسرائيلي، من دون فائدة، حتى شعروا وكأنّهم يبحثون عن إبرةٍ في كومة قش. لكنّ السيد جعفر هاشم* كان متفائلًا، واليوم أكثر من أي وقتٍ مضى؛ يبحث وكأنّ صوتًا ما يبعث فيه الأمل على المثابرة. ذاك الصوت الذي أيقظه صباحًا بحماسٍ لا نظير له.
التحدي الآن ليس سهلًا: أولًا، يجب على المجاهدين والجيش اللبناني أن يجدوا جهاز التّنصّت ذاك، لما فيه من خطورة على المنطقة بأسرها؛ فهل يُعقل أن تُترَك إسرائيل على راحتها في الرّصد والتجسس؟! وثانيًا، هناك تفاؤل ما، يزرعه تاريخ المقاومة الحافل بلوحات ابو صالحها، لمسات يد الرحمة الإلهية، تلك التي لم تترك المجاهدين لوحدهم طرفة عين أبدا، فكيف تتركهم الآن؟
لا ينسى السيد جعفر ذلك الحلم الذي رآه قبل فترة من الزمن، يوم كان في إحدى مهماته في إيران. في ذلك الصّباح، غمره دفء سبحانيٌّ رسم على وجهه ابتسامة ناعمة، وحدث يومها أن زار المعسكر شيخٌ جليلٌ، فأخبره جعفر عن رؤيته الجميلة التي دفعت الشيخ الى فرد أساريره في وجه المجاهد اللبناني قائلًا له: ستعود الى لبنان، وستقوم بإنجازٍ نوعيٍّ لحزب الله.
سرت قشعريرة في جسد السيد، شعر بغبطة وسرور، وأمل في أن يستعمل الله جسده القوي في سبيل إنجازٍ هامٍّ. لزم الصمت طالبًا من الله تحقيق ذلك الحلم الذي لم يخبر به سوى صديق عمره "ابو صالح"(اسم مستعار) فور عودته إلى دياره.
جعفر يسير، المنظر لا يتغيّر، فوق ذلك الجبل. فجأة رأى صخرة كبيرة بعيدة، نظر اليها وشعر أن ابو صالحه يطلب إليه التوجه نحوها. لكن كيف، والصخرة بعيدةٌ جدًا، وهو قد بعُد كثيرًا؟ قال في نفسه: " لقد بعُدت كثيرًا، وإن اتجهت نحوها فسأبعد أكثر". لكنّ أمرًا ما حثّه على المضي، من دون أن يلتفت يمينًا أو شمالًا.
تابع جعفر سيره من دون أن يتغيّر المشهد: صخور وحجارة وتيه وانتظار. وصل أخيرًا الى الصخرة، اقترب منها، ثم ابتعد عنها بسرعة كبيرة وهو ينادي صديقه "ابو صالح" عبر الجهاز اللاسلكي:
- ابو صالح، ابو صالح، لقد وجدته.
- الله أكبر، الحمد لله، ولماذا تلهث هكذا؟
- أبتعد خشية أن ينفجر. الحمد لله أننا وجدناه وأخيرًا.
اغرورقت عيناه بالدموع فرحًا وشكرًا، وكلّه رغبة في البكاء، وفي عناق ذاك الضوء المشتعل الذي يراه كل مجاهد من دون أن يتمكن من الإحاطة به. لقد حقّقت المقاومة انتصارًا جديدًا لا يُستهان به، وهذه المرة على يديه.
أمام جبل الباروك يقف ابو صالح، يستحضر قصة صديق عمره. تأخذه الصور الى هناك، حيث استفزّ الدفاع عن المقدسات البطل الضرغام، ذا الوجه البهي والجسد القوي، "جعفر"، ليكون في طليعة المتصدّين للتكفيريين وعبواتهم وآلاتهم.
فمن الباروك في لبنان، الى "السفيرة" في حلب - سوريا، جعفر فارسٌ على امتداد المسافات، وبحجم التحدي.
- "يا ابناء علي وفاطمة، يا ابناء الحسن والحسين، لقد تحررت السفيرة".
كان هذا البيان الذي تلاه السيد جعفر عبر مكبّرات الصوت، بعد أن كتبه بيده، ليهبط بردًا وسلامًا على قلوب المجاهدين في السفيرة، فترتفع معنوياتهم بعد أيامٍ من المواجهات العنيفة، ووقوع عددٍ من الجرحى، وارتفاع عددٍ آخر شّهداء.
عبر الهاتف، زفّ الى "ابو صالح" خبر الانتصار قائلا: "الله أكبر يا ابو صالح، إنهم يهربون من السفيرة كما هربوا من القصير. لو تراهم يا صديقي كيف يفرّون كالجرذان". لتكون هذه العبارات هي آخر ما سمعه ابو صالح من صديقه المجاهد، الذي كان سيّد كل مهمّة يوكل بها، وصاحب ثقة قادته لكفاءاته العالية.
في الذكرى السنوية لرحيله، يخاطبه ابو صالح": بَرعت في تفكيك الأجهزة والعبوات يا أخي، حتى منحتك آخر عبوةٍ، في السفيرة، شهادة الارتقاء نحو السماء، وعانقت أخيرًا ذلك الضوء... تُرى هل أحاط هو بك أم أنك من منحته شرف جهادك وأيقونة شبابك؟! سيكبر ابنك "علي" فينا وبيننا وسنخبره كم كنت بطلًا. هنيئا للشهادة بك.
*الشهيد جعفر حسين هاشم – مواليد عين التينة 29/04/1987 - استشهد بتاريخ 31/10/2013 في السفيرة – حلب.
شكر خاص لصفحة " مشغرة تحكي ذكرى الراحلين".