... أيضًا يذكرني بوالدي جهاز الراديو القديم هذا، المغلف بغطاء جلدي بني، يظهر فخامة الصنف بين أول تصنيعه وبين هذا اليوم، لا فرق. لم تعد بطاريات الراديو تسعفني لكي أستمع إلى الأخبار. نقاشات مجلس الأمن تقترب من خواتيمها. بوادر اتفاق وقف إطلاق النار بدأت تلوح في أفق، حاولت آلة الحرب الصهيونية أن تجرده أي بهاء. ممثل لبنان، أو هكذا يفترض به، الوزير طارق متري، وزير الإعلام ووزير الخارجية بالوكالة. أظهر هذا الرجل لبنان التقليدي على حقيقته. لم يحد عن خط أسلافه قيد أنملة.منهجه يرتكز على لبنانية بلد قوي في ضعفه، في دموع منسكبة على خدود بنيه، تستجدي العطف، سيادة وحرية واستقلالًا. إضافة إلى هذا، كان يمثل فريقه السياسي، بعد الانقسام الحاد الذي أدى إلى تهميش دور الرئيس إميل لحود، الذي خرق كل هذه الأعراف البالية، بانتهاجه أسلوبًا متمردًا على قصور السياسة التقليدية وتقصيرها.
يومها حلّق أكثر منه مندوب قطر، ابن جبر الخواطر الشهير. بل أكثر من لك، فقد أثار إعجابي مندوب الكيان الصهيوني، لأنه عرف كيف يقدم دولته الجلادة، ضحيةً، فيما عجز وزيرنا عن أن يتكلم باسم الضحايا الحقيقيين، أو أن يستند إلى صمود المقاتلين في مارون الراس* وغيرها. تخيلت أن المنبر كان يليق بمحمد دمشق. لم يكن هذا ديبلوماسيًا عريقًا، ولا تدرج في مكاتب المحامين، ولا قرأ كتب الفلسفة وحفظها عن ظهر قلب. لكنه كان كل ذلك، حين طلبت منه القيادة ألا يبقى في مارون، لأن الأخيرة تعاني ثغرات عدة بالمفهوم العسكري. قال: فليعبروا على أجسادنا. هذا أزْرٌ نشتد به، ونشد به هممنا. ما الذي يبقي أمًا جنوبية تحت ركام منزلها، وشيخًا طاعنًا يقصد مسجد قريته ليرفع آذان الفجر وسط الأرض المحروقة؟: وزيرٌ بلا أزر؟ أم أزرٌ كامل متكامل، يحيط التلة بكل عنفوانه. يقدم للحرب بتكتيكات لم يسبق له أن تلقاها في أكاديميات تخفق راياتها حول العالم؟
صورته على مدخل مارون
محمد دمشق خطط منذ أن تسلم مسؤولية بقعة مارون كيف تصمد القرية أكبر قدر ممكن. في الواقع، صمدت مارون أكثر من التخطيط بكثير، صمد محمد ورفاقه حوالي 10 أيام، لم يكن الوقت والكم والنوع عدتهم وعتادهم، بل كانت معرفة مواضع القوة في نفوسهم. هذا ما غاب عن طارق متري ومن وما يمثل. لو يصمد هذا بضع دقائق. يرمي خطابه المحضّر. لا يتكلم. لا يشكو. لا يطالب. فقط، يشهر من جيبه صورة محمد دمشق. ويقول: هؤلاء أبنائي جئني بمثلهم. لكان وزيرًا مؤزرًا، لم يستجلب لعنات آلاف المقاتلين على طول الجبهة يرددون في أعماقهم: من هم هؤلاء الناس؟ لماذا يصرون على الهوان؟.
هذا ما تخيلته، لا لأنني أعيش الخيال الواسع، ولا التمنّي الخصب، بل لأنني لمستُ هذا الشعور العزيز بيدي، وعشته وزملائي لحظة بلحظة: في مركبا*، كنا نسمع الشباب على الجهاز اللاسلكي، كيف يناورون مع جنود الاحتلال على بعد أمتار، ومن بيت لبيت، ومن حائط إلى وراء حائط. أحدهم يقول: أُصبتُ، سأرمي عليهم قذيفة الآن. وآخر يقول: لقد رأيتهم خلف تلك الصخرة، سأنقض عليهم... هناك ارتفع صديقي أحمد حمزة، من الجميمجمة* المجاورة. كان أحمد هذا إسكافيًا، اشترى فانًا كبيرًا، وضع عدته فيه، وصار يجول بين الأسواق والقرى. ولكنه في لحظة ساخنة في مركبا، تعلق بأطراف مسؤول البلدة، راجيًا ألا يخرج منها إلا شهيدًا...
بعد كل هذا كيف لا أعيش عزًا. كيف لا أغص بكلمات طارق متري؟ هل انتظرت يا ترى كلمات ساسة قطر ومساعداتهم؟ هل يجعلني أصمد في أرضي بريق الذهب، أم وهج الدماء والتضحيات؟ قصتنا طويلة مع التهميش والحرمان و"الأطراف". نسمى نحن بالأطراف، ولا أدري أين يقع عقل هذا الوطن ورأسه تحديدًا؟!
إن كل وزير يطل على الناس، يا حبذا لو يدرك حقيقة أحاسيسنا، وإلا سوف يظل وزيرًا بلا أزر، دولة بلا كيان، كيانًا بلا روح...
*مارون الراس: قرية في قضاء بنت جبيل. تقع على الحدود مع فلسطين المحتلة، وتشرف على العديد من المستعمرات الصهيونية لناحية طربيخا وغيرها.
*مركبا: من قرى قضاء مرجعيون. تقع على الحدود مع فلسطين المحتلة، تشرف بعض نواحيها على المستعمرات الصهيونية لناحية هونين.
*الجميجمة: قرية في قضاء بنت جبيل. تحتل موقعًا عاليًا بين القرى المحيطة.