يوم 26/10/1995، قبل حلول الساعة الواحدة بقليل. جاء خبر عاجل، عبر وكالة الصحافة الفرنسية، إلى مكتب التحرير في إذاعة النور، حيث كنا نعد نشرة الظهيرة: "قتل رجل أعمال ليبي يدعى إبراهيم الشاويش في أحد شوارع مالطا، أمام فندق ديبلوماتيك". ما هي إلا لحظات، وكعادته في مثل هذا الوقت، دخل السيد حسن فضل الله، رئيس التحرير حينها في الإذاعة (النائب الحالي في مجلس النواب اللبناني)، وطلب مني متابعة الخبر عبر الإخوة الفلسطينيين في سوريا للاستفسار عن مدى صحة علاقة الرجل بالمقاومة الفلسطينية، أو إذا ما كان فلسطينيًا. بادرت مسرعًا، مع عدم اقتناعي بالربط الشخصي أو الجغرافي طبقًا لخبر الوكالة، واتصلت أولًا بالمكتب الإعلامي لحركة الجهاد الإسلامي في دمشق، وإذا بالمجيب الأخ زياد نخالة "أبو طارق"، نائب أمين عام حركة الجهاد حاليًا. بعد التحية بادرني فورًا، وقبل طرح السؤال: "استشهد الأخ أبو إبراهيم". نزل كلامه كالصاعقة. لم أعد أقوى على السؤال. لم استطع الرد عليه. الجميع حولي ينظرون إليّ، وقد قرأوا الجواب من عينيّ الدامعتين. ما هي إلا ساعات قليلة، حتى أُعلن الخبر رسميًا من المكتب الإعلامي للحركة: "استشهد الدكتور فتحي الشقاقي، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي".
أُعلنت حقيقة الحدث، وتبين أن عميلًا للموساد الصهيوني، كان يتابع الدكتور الشقاقي في مالطا، ومن على دراجة نارية أطلق على رأسه ثلاث رصاصاتٍ قاتلة، بينما كان يتمشى وحيدًا من دون مرافقة، بالقرب من الفندق الذي كان يقيم فيه عائدًا من ليبيا، بعد أن ذهب إليها للبحث عن حلول لعشرات آلاف الفلسطينيين الذين يعانون فيها من ضغوطٍ أمنية وسياسية في تلك الفترة، فقدر الله له أن يستشهد وهو يسعى للتخفيف عن أهله وحل مشاكل شعبه ومساعدة المطرودين من أبناء وطنه، من داخل ليبيا إلى الصحراء على الحدود المصرية.
لا أذكر أنني نسيته يومًا، أو أنه قد غاب عن ذاكرتي، أولم يعد ماثلًا أمامي. عرفته لمدة ثلاث سنوات، على مدى ثمانية عشر ساعة يوميًا بعد الإبعاد. كانت هذه المعرفة وستبقى ذخرًا لي. وقبل ذلك ما زلت أذكره في كثير من الحوادث في بيروت، قبل تشكيل حركة الجهاد الإسلامي وبعده، وكيف كان يقتطع جزءًا من وقته للجلوس مع والدتي والاستمتاع بلهجتها ومواقفها السياسية وحبها لياسر عرفات.
لم يكن أبو إبراهيم متناقضًا في حياته، بل كانت بساطته عامة في السابق من الأيام، وفي السالف منها مع المسؤولية وتصدر الأحداث. رويت وسأظل أروي قصة جلوسه خلفي على دراجة نارية، من دون خجل أو إحساس بالمهانة. يصل الليل بالنهار، عاملًا بجد وإخلاص. يلتقي بالضيوف، ويجتمع مع المسؤولين ويلقي المحاضرات ويشارك في الندوات. من رواد معارض الكتب، ولا يغيب عن أية فعالية تتعلق بالقضية الفلسطينية، مشاركًا بالكلمة والرأي، مقدمًا النصح والمشورة في الوقت الذي كان يستشعر فيه الخطر الكبير على القضية الفلسطينية، مدركًا ما ينتظرها من مؤامرات ومخططات، كانت وما زالت خطرة.
كان الشهيد الشقاقي ذا ميول ناصرية في بداية وعيه، لكن هزيمة العام 1967، أثرت تأثيرًا بارزًا على توجهاته، حين انخرط سنة 1968 في الحركة الإسلامية، إلا أنه اختلف مع الإخوان المسلمين، وبرز هذا الخلاف بعد سفره لدراسة الطب في مصر العام 1974، وتحديدًا بعد الجلسات الطويلة مع الدكتور أيمن الظواهري، الذي لم يقتنع بأن فلسطين هي القضية المركزية للإسلام والمسلمين.
في مصر اعتقل العام 1979، بسبب تأليفه كتاب "الخميني، الحل الإسلامي والبديل". ثم أعيد اعتقاله في العام نفسه بسجن القلعة، على خلفية نشاطه السياسي والإسلامي لمدة أربعة أشهر، غادر بعدها مصر إلى فلسطين في العام 1981 سرًا، بعد أن كان مطلوبًا لقوى الأمن المصرية. وفي الاول من آب أغسطس 1988 أُبعد إلى لبنان، بعد اندلاع الانتفاضة الأولى.
الدكتور الإنسان
لم يكن الشقاقي الدكتور الجراح مجرد قائد، بل تعدى حدود القيادة ليكون أخًا وصديقًا لكل أبناء قوى المقاومة، فقد عُرف عنه نزاهة النفس وصدق القيادة. أحب فلسطين كما يجب أن تُحب. كان عاشقا للأدب والفلسفة. كان شاعرًا ومفكرًا وأديبًا حتى إنه كان ينْظم الشعر لوالدته المتوفاة منذ صباه، يهديها القصائد في كل عيد أم ويبكيها كأنها توفيت بالأمس. ومن قصائده قصيدة "الاستشهاد" المنشورة في العدد الأول من مجلة المختار الإسلامي المصرية في شهر تموز من العام 1979:
تلفظني الفاء
تلفظني اللام
تلفظني السين
تلفظني الطاء
تلفظني الياء
تلفظني النون
تلفظني كل حروفك يا فلسطين
تلفظني كل حروفك يا وطني المغبون
إن كنتُ غفرتُ
او كنتُ نسيتُ
أحب الشقاقي أشعار محمود درويش ونزار قباني وكتابات صافيناز كاظم، بل وكان له ذوق خاص في الفن، فقد أُعجب بالشيخ إمام (يستمع إليه ليلًا فقط)، وكذلك أحمد فؤاد نجم.
رحمك الله أبا إبراهيم وسالم وعز الدين الفارس وفتحي عبد العزيز وفتحي الشقاقي، رحمك الله يا شهيد فلسطين كل فلسطين من النهر الى البحر وانت في ثرى روضة شهداء فلسطين في سوريا العروبة، وجعلك مع الأنبياء والصديقين والشهداء، وجمعك مع رسول الله وآله الأطهار وصحبه المنتجبين.