كانت هذه المرة الأولى التي أذهب فيها إلى المرابطة. كان في تفكيري خيالات كثيرة عن المرابطة ومكانها وكيف تكون. عن الغرفة أو الخيمة التي سأكون فيها، عن عدد الإخوة المرابطين معي، عن السلاح والعتاد، وعن المسافة الفاصلة بيننا وبين العدو الإسرائيلي، وقبل كل شيء عن هؤلاء الشباب المقاومين. سمعت الكثير من قصص المجاهدين التي عاشوها حينما كانوا في المرابطة. عن الغارات والكمائن والمواجهات والقصف والعمليات، عن الصيف وحره وعرقه وبرغشه وذبابه، عن الشتاء وصقيعه ومطره وثلجه، عن النهار والليل، والجوع والعطش، عن الشهداء والجرحى، عن الحنين إلى الأهل والشوق إلى العودة إلى الثغور بعد انتهاء فترة المرابطة.
كل هذه الأفكار والصور كانت تتشابك في رأسي خيوط الصوف، وقد تلاعب بها قط البيت فتشابكت واختلطت. ولم تنجلِ الصورة الحقيقية إلا بعد وصولي إلى النقطة المحددة لنا، وارتدائنا الزي العسكري. كان حزني شديدًا، لأن مرابطتي جاءت بعد تحرير الجنوب والبقاع الغربي في العام 2000. قبل هذا التاريخ كنت ما أزال صغير السن، أنظر بحسد إلى أخي الكبير حاملًا حقيبته مغادرًا إلى دورة عسكرية أو إلى مرابطة. يودعنا بقبلات سريعة، تاركًا خلفه أحلامي وأمنياتي بأن أكبر وأصبح مثله: مقاومًا من مجاهدي المقاومة الإسلامية.
عرفت من الإخوة، الذين التقيت بهم في المكان المحدد لنا لنلتقي فيه في الضاحية قبل الانطلاق إلى نقاط المرابطة، أنه تبدل حال المرابطة بعد التحرير. قبل ذلك كانت الإجراءات أكثر سرية وطرق الانتقال إلى الجنوب والبقاع الغربي كانت تجري بحذر أكبر. ويعود السبب في تغير الحال إلى أن المقاومة اليوم فرضت على العدو حدودًا أكبر لتحركه العسكري ضدها. انقضى الزمن الذي كنا نقتل فيه وحدنا، كما قال السيد نصر الله في إحدى خطبه.
بعد اكتمال العدد وتوزيع الحاضرين وفق ما حدده المعنيون، انطلقنا جنوبًا. كان بعض الموجودين في وسيلة النقل على معرفة بسبب علاقات العمل أو الجيرة أو الدورات التي شاركوا فيها أو المرابطات السابقة، فانطلقوا في أحاديث تخللها الكثير من الضحك، بينما انطوى بعضنا على نفسه، لا يعرف أحدًا من الرفاق، وإن كان يشعر بكثير من الراحة، وكنت من هؤلاء.
وصلنا إلى المنزل الذي يجري منه توزيعنا إلى النقاط الحدودية المختلفة. جرى نقلي وأخوين آخرين إلى نقطة تقع بعد قرية الناقورة الحدودية. أوصلنا إليها أحد المجاهدين، أعطانا التوجيهات المناسبة للحالات الطارئة وغيرها، ثم غادر على الطريق الموحلة المتعرجة التي لا تصلح لسير السيارات العادية عليها.
زائر الليل!
كنا في شهر كانون الثاني. النقطة التي أقمنا فيها تقع على تلة مواجهة للبحر من ناحية، ويفصل بينها وبين فلسطين المحتلة، من الناحية الأخرى، شريط شائك بسيط وطريق ترابية، خلفهما كانت دوريات العدو تعبر بين وقت وآخر.
كان الطقس شديد البرودة بسبب الريح القادمة من البحر. وكان حفيف الأشجار المحيطة بالغرفة الاسمنتية شديدًا في أغلب الأحيان، خاصة عند اشتداد الريح في الليل، فيعمل خيالك حينها على تصوير الأشجار على أشكال بشر، ولك أن تتصور عندها كيف سيمر الليل عليك.
في إحدى الليالي الماطرة شعرنا بحركة مريبة قرب نقطتنا. تناول أحمد الجهاز اللاسلكي ليخبر مسؤول المحور، فوجد الجهاز لا حرارة فيه، بعد نفاد الطاقة من البطاريات. طلبنا رقم المسؤول بواسطة الهاتف العسكري (الداخلي). أيضًا لا توجد حرارة. خرج جواد من الغرفة، لحق بالسلك في عتمة الليل، غاب لدقائق شعرت بأنها دهر، عاد بعدها راكضًا، همس داخل الغرفة بلهجة حاسمة: علينا أن ننتشر ونكون على حذر، فالسلك مقصوص وليس مقطوعًا، وربما كان العدو تجاوز السلك الشائك ويتقدم نحونا. هكذا قضينا ثلاثتنا الليل منتشرين حول غرفتنا، منبطحين على الوحل، بانتظار العدو الذي لم يأتِ.
عاود جواد تفقد السلك من جديد. غاب لبعض الوقت، ثم عاد مقهقهًا: سامحاني. السلك الذي تتبعته ليلًا كان السلك القديم، وليس سلك الهاتف الحالي. كان لا بد أن نسامحه على نومة الوحل الماضية.
زائر النهار!
كانت الأوامر تقضي بعدم خلع الدرع والخوذة طيلة وقت الحراسة، وكذلك حين ينتشر عناصر العدو في النقطة المقابلة، التي تكون فارغة منهم في أحيان كثيرة، فعلى ثلاثتنا أن نرتدي الدروع والخوذ.
ولما كان عناصر العدو يفضلون في أوقات كثيرة العمل في تدشيم نقطتهم أثناء ساعات الليل، فقد كنا نقضي الليل ساهرين ثلاثتنا نراقب ما يفعلون. كان يمكن لهم بكل سهولة تجاوز الأسلاك الشائكة البسيطة لكي يصلوا إلينا. هكذا كنت أظن. فبعد يومين من وجودنا، وصل إلى النقطة مجموعة من الإخوة باللباس العسكري ومعهم ثلاثة شبان باللباس المدني، عبارة عن سروال جينز وتي شيرت نصف كم. كان منظرهم عجيبًا بيننا، ونحن نرتدي "فيلدات" المارينز وقبعات الصوف تحت الخوذ ونكاد نتجمد من شدة البرد.
جرى تكليفنا بتأمين الحماية للإخوة الثلاثة. تساءلت في نفسي: ماذا جاء هؤلاء يفعلون هنا، من دون ثياب عسكرية؟ ولماذا هم واثقون بأنفسهم إلى هذه الدرجة... يتبع