في المقبرة اللصيقة بحرم السيدة زينب عليها السلام في الشام، ينام بسكونٍ شهيدٌ لم تفتح البوابة قلبها الأبدي لغيره من الوافدين حتى الآن. هو السيد علي أحمد مرتضى(السيد وسيم)، الذي خصّته الشهادة بوسام الأنس لعمته الغريبة، فسجّلت اسمه عنوانًا للتفكر والتبصّر، ولكن هو "السيد وسيم" هذا، حتى ينال تلك الكرامة؟
يُجمع كلّ من عرف "السّيّد وسيم" بأنّ كرامته تلك شجرةٌ رعاها في حياته عبر جهاده الأكبر وسط أهله والمجتمع، وعبر الجهاد الأصغر ضدّ التكفيريين، وقبلهم الإسرائيليين في حرب تموز 2006.
فهنا في الشام، حيث ينام راسمًا على جبين الروضة ابتسامته العريضة، الكلّ يُحيي اسمه الذي تنوء به ذاكرة النسيان. ليس فقط في شارعٍ يحمل لقبه بين المجاهدين، وليس فقط في بيتٍ كان يتردّد اليه بحكم عمله، فحفظ بصماته وصوت تلاوته، بل في كل قلبٍ رآه مثالًا للأخلاق العالية، والقلب الرحيم، والتضحية غير المحدودة، حتى بات حلمًا للشّهادة، قبل أن تغمر روحه الطّاهرة. هو المبتسم دائمًا، قليل الكلام، إن تكلّم أصاب بأحرفه اليسيرة أهدافًا تقع موقع الاحترام والإعجاب في أذهان المحيطين به.
فما يميّز "السيد وسيم"، لا فقط تاريخٌ جهاديٌّ تبلور في أروقة الشّام المحيطة بالسيدة زينب، ولا فقط شخصيةٌ خدمت بحنكةٍ وذكاءٍ ميدان عمله، ولا فقط سرعة بديهة في إيجاد حلولٍ سريعةٍ تخدم تحركات المجاهدين وتلبّي الاحتياجات الطارئة ... بل روحٌ يصفها من حولها بأنّها "تعالت عن الدّنيا وهي بين أحضانها، وزهدت في كل شيء".
عن الرجل "الذي لا يغضب"
يُجمع المقربّون من السيد وسيم، على أنّه كان لا يغضب. مهما حصل، ومهما تعرض لبلاءات واختبارات، يبتسم ابتسامته المعهودة التي لا تفارق وجهه. يروي أحد المجاهدين موقفًا صعبًا تعرّضوا له في مجموعته قائلًا: "كان الأمر يستدعي الغضب، ولو أنّ شخصًا غير السيد وسيم معنيٌّ بالأمر، لسمع الجميع صوته. إلا انّ السّيد جلس من دون أن يكلّم أحدًا ومن دون أن يبتسم. وكان لسكونه وصمته ذاك أثرٌ، جعل من حوله يصمتون ويدركون حجم الحَدَث. وعندما اقتربت منه وسألته:ما بك؟ أجابني: أنا الآن في كامل غضبي! فقلت له مستغربًا: وهل هذا هو غضبك، وهل هذه علامات الغضب عندك!؟ فابتسم، وقال: نعم. قلت له: اغضب أكثر أرجوك! فاتّسعت ابتسامته وقال: هذا يكفي. وعندما أردت أن أصف للشّباب لاحقًا صعوبة الموقف في ذاك الحين، قلت لهم: إليكم العلامة، لقد غضب السّيد وسيم. فعرف الجميع خطورة الوضع، لأنّ الشهيد كان السيد الذي لا يغضب".
وكذا تقول زوجته، الأم التي وضعت طفلها، " علي"، بعد أشهرٍ من شهادة والده، ليكون الشّاهد على غياب أبٍ سيقرأ ويسمع عنه الكثير، من دون أن يراه. السيد علي لم يكن يغضب أبدًا، حتى في أصعب المواقف والحالات، كان يبتسم لي، لأنه يعد الدنيا بأسرها لا تستحق الغضب، فكيف تُغضبه أشياء يسميها تفاصيل". وتضيف: "كان يوصيني دائمًا بالزهد والارتقاء عن الدنيا وعن تفاصيلها ومغرياتها، وكذا بأن أكون قويةً وفوق كل الظروف. وقبل شهادته بفترة قصيرةٍ أخذني إلى صخرة الروشة وقال لي: أترين كيف تتكسّر الأمواج عند الصخرة؟ أريدك أن تكوني قوية صلبة مثلها، وألا تضعفي أمام الأزمات. كأنه كان يوصيني بالصبر والقوّة بعد استشهاده".
بعضٌ من حكاياته
يصف أصدقاؤه المقربون منه كرمه ونبل أخلاقه، وكيف كان يسارع إلى قضاء حوائج المحيطين به من دون أن يطلب منه أحدٌ ذلك. فيقول علي(اسم مستعار): "كنت مقرّبًا من السيد وسيم، وكنّا نتبادل الزيارات العائلية. وذات ليلة كان السيد يسهر معنا في منزلنا، فتكلمنا أنا وزوجتي عن ديكور البيت وقلنا أنّنا نريد صفّ حائط غرفة الجلوس بالخشب الملون، وصناعة إطارٍ خشبيٍّ للتلفاز. بعد أسبوعٍ اتصل بي السّيد من منزله في بعلبك، وطلب منّي استقبال مجموعة الأخشاب التي أرسلها إلي. ظننت أنّه صنع إطارًا للتلفاز- وهو ليس نجارًا- لكنّني فوجئت بباصٍ يحوي بأكمله أخشابًا كثيرة، أرسلها من بعلبك إلى بيروت، وجاء بنفسه من مسافة بعيدة كي ينجز صناعة الحائط وكأنّ البيت بيته. وكذا كان يتصرف مع جميع المحيطين به، فور ما يعرف بأنّ أحدًا ما في حاجة إلى أي شيء. كان يسارع الى التنفيذ من دون أن يُطلَب منه. هكذا عرفناه طيلة حياته، خدومًا معطاءً من كل قلبه". يضيف صديق الشهيد: "عندما كان السيد وسيم يتعرّض لأذيّةٍ ما، كان يحزن على من اقترف الأذية لا منه، ويدعو له بالمغفرة والهداية".
"الجهاد سياحة أمّتي"
تشهد جرود بعلبك على وقع أقدامه فيها، قاطعًا المسافات في السير إلى الله وفي سبيل الله متأمَلًا، في المهمّات الصعبة، وفي أقسى أوقات الحرّ والبرد. عندما كانت تغطّي الثّلوج الجبال، كان يستأنس أكثر بمهمته التي يعدها سياحةً، مع ما يواجهه من عواصف تُضيِّع عليه الطريق في بعض الأحيان.
في بيته ببعلبك، تغطي صورته المعلقة على واجهة المنزل الجزء الأكبر من حجارة تشهد على برّه لوالديه، وعلى وصاياه الأخيرة لأمه، قارئة العزاء. فقبل ذهابه في رحلته الأخيرة، أمسك يدها قائلًا: " ارتفعي عن الدنيا يا أماه، ودعيني أفتخر بك أمام مولاتي زينب عليها السلام، وانتبهي لولدي أحمد، وربّيه مثلما ربّيتني".
في محل والده، حيث تحطّ حاجات الأيتام عند "السيد أحمد"، الملقّب ب"والد الأيتام"، يشهد الجميع على غياب ولد بارٍّ بأبيه، شهيد سيبقى دمعة القلب وبسمة الفؤاد، في ذكراه السنوية، وعند كل موقف صار هو ذكراه.