... تذكرت شجرة. تلك شجرة كنت قد قطعتها في دارنا، بحجة الزيادة على البناء. تذكرت وجه أبي المنكسر. حين وقع نظره عليها مقطوعة، وأنا أعالج ما تبقى منها منغرسًا في الأرض، غضب والدي كثيرًا. طيلة أكثر من 20 عامًا وهو يحتطب من الكرم الذي ضمنه، زراعة ورعاية، لم يؤذِ عرقًا أخضر. "كيف طاوعتك نفسك لتقطعها". ما زالت كلمته تخرق حواسي. أما لماذا تذكرته الآن، ونحن في قلب هذا الجنون، برًا وجوًا، قصفًا وتدميرًا، أصدقاء ومدنيين شهداء، فلأنني شعرت بأن هناك من يريد أن يجتثنا من هذه الأرض. تراءى أمامي جذعها الذي كان يقاومني متشبثًا بالأرض، لم تكن الأرض صلبة، ولكنه كان يجعلها مستحيلة الاختراق. الآن ما احوجني أن أكون ذاك الجذع المنغرس. ما أغلى الشجر يا والدي. رددت في نفسي.
أردت أن أشرح ما أفكر به لأصدقائي، ولكنني عدلت. فوق أفكاري وأحاديث النفس، هناك من تجاوز الأمر وحلق. يسقي الشجر والبشر والحجر من دمه. محمد دمشق ومحمد عسيلي وعلي الوزواز ووسيم نجدي ووسيم شريف ومحمد عطوي وأحمد حسن جغبير وووو ....* أولئك شجر ضخم انغرسوا في الأرض فأحالوها مستحيلة العبور، إلا من أتاها بقلب سليم. وأنت يا والدي بكرت في الزرع والحصاد. بكرت في الغرس والقطاف. زرعت في وجد الجنوب بكرك حسن*. لا أدري هل كنت ترى الشجرة حسنًا، أم ترى حسنًا شجرة لا يمكن قطعها. بكاؤك عليهما، كأن فلذة اقتطعت منك. أنت لا تتألم. رأيتك تحمل الجمر ولا تبالي. رأيتك تنزف دمًا وأنت تزيل الأشواك من درب السنابل. تبيت الليالي في الكرم، كامنًا للمتطفلين على المواسم. هم كذلك يا أبي، حسن ورفاقه، حراس زرعنا، حماة انغراسنا في الأرض. لم يطب لنا مقام بها، إلا بعد أن عبّدوا طرقاتها، ومهدوا معاقلها بكل غالٍ ونفيس. هل للأرض سعر يا والدي؟ قلتَ يومًا: كُلْ ترابًا ولا تبِعْه.
لا بد أن أتذكر والدي وشجره العزيز عليه، في تلك الحرب، وخصوصًا في ذلك المنزل، ذي المكتبة الضخمة، لأنها ذكرتني أيضًا بمكتبة والدي شبيهتها في الكويت. تلك عزيزة أخرى أودعها والدي أمانة في مكان ما، ولكنه لم يستطع أن يحملها معه إلى لبنان. تذكرت جريدة الصباح، ومجلة العربي بأعدادها المكتملة طيلة 20 عامًا أو أكثر. تذكرت هذا المزارع الحطاب ومكتبته الكنز. جاء أبي إلى لبنان بعد غربة يبحث عن كنوز يعوض بها ما فقد. كانت الحياة ترسم خلف الأشجار مسارها بغير استشارة. خط حسن طريقه بين أغصانها وجذوعها. صار يعوض يومًا بعد يوم مكتبة والدي، الذي أورثه حب الكتاب والشجر والأرض. يجمع أصدقاءه وأترابه ليعينه في حصاد الحقل. مع كل "غمرٍ"* نجمعه يحدثنا عن شهيد مر به. عن نعمة حب الله وحسن حب الله وحسان زهوي* وآخرين كثر. وأبي يحبس في نفسه هواجسه. هل يهيئ حسن نفسه ليصبح شجرة هو الآخر. مذاك فكر بأن الشجر روح ومشاعر، عقل وقلب، إذا فقدت هذه العناصر احتطبناها وتدفأنا بوهجها، أما إذا بقيت شجرة غضة، فاقت بعض الناس احترامًا.
مرت سنون. غاب حسن مهاجرًا. صار أبي يحتاط في لمس الشجر. لعل هذه من أراد حسن أن يكونها، أو لعلها تلك. وحين عاد إلى حضنه أحس بأنه زيتونه أثمر موسمين هذا العام. من قال إن الزيتون يعطي عامًا ويمسك التالي، اسقه يا غارسُ ولا تلتفت، يعطك ما يدهش. ولكن عليك أن تعتني بما تسقيه، لا تسلط عليه إلا صافيًا عذبًا، ودلل التراب حوله. دلل الشجر، فهو كالأطفال يربو بالحنان، ويشتد حتى ينغرس ويستحيل على العابثين قلعه. كنتُ عابثًا بالشجر يومًا يا أبي. لم أرَ الشجرة كما رأيتها. واليوم والحرب دائرة، عادت الأشجار خط الدفاع الأول، وها هي في مارون الراس وبنت جبيل وعيناثا وعيترون والأخريات، قد استعصت على الغزاة، فلم يبلغونا... يتبع.
*من شهداء حرب تموز 2006.
*الشهيد حسن محمود الأمين استشهد في 15 نيسان 1996.
*المجموع من القمح وغيره أثناء الحصاد.
*شهداء أصدقاء لحسن.