الخروج إلى المخيم (11): الأرض تنحسر من تحت أقدامنا
الأسير الفلسطيني ثابت مرداوي
تحرير: عبد الرحمن وليد
خلال الأيام الأخيرة انحصر القتال داخل مخيم جنين في بقعة أرض صغيرة جدا لا تتعدى عشرات الأمتار طولا وعرضا، الأمر الذي فرض علينا حالة من الفوضى. المشكلة الحقيقية التي واجهتنا منذ البداية هي الجرافات، أما الطائرات والدبابات فكنا قادرين على تقليل الأخطار الناجمة عنها. والجنود الصهاينة لولا الجرافات التي كانت توفر لهم الإسناد، لم يكونوا ليشكلوا أي خطر حقيقي، بل إذا شعرنا باقتراب مجموعة أو رأينا أفرادها نبتهج فرحا لأن صيدا مثمرا يوشك أن يقع في أيدينا.
الجرافات من نوع (andeel1_andeel2)، والحديث للأسير ثابت مرداوي، كانت مصفحة ومزودة برشاشين من عيار ثقيل. لم نكن نملك ما يؤثر عليها أو يوقف تقدمها، والعبوات الناسفة التي كان من الممكن أن تؤثر عليها أُبطل مفعولها وأخرجت من التأثير في المعركة مبكرا.
كانت حاجتنا إلى الأرض كي نصمد لا تقل أهمية عن حاجتنا إلى الخبز. على ذكر الخبز كان الجوع يغزو أجسادنا، وراح يشكل عدوا إضافيا فوق الجرافات التي لم تتركنا ننعم بأي متر ونسترجعه بالدم من الجنود، فأخذت تلاحقنا من بيت إلى بيت، وراحت الأرض تنحسر معها من تحت أقدامنا رويد رويدا.
غدا الصمود على شبر واحد يكلف ثمنا غاليا جدا. هنا يكتشف الإنسان المعنى الحقيقي للأرض، وهنا تدرك معنى الموت وتكتشف من هم الأموات. أولئك على الأقل امتلكوا مترا منها ضم عظامهم وحماها من عبث الخارجين على قوانين الطبيعة ونواميس الكون!
جلست والشهيد يوسف كبها أبو جندل وبعض الإخوة لتدارس الموقف، ومحاولة الخروج بتصور معين. كان التصور من شقين: الأول ينص على أنه من الخطأ الفادح أن نتجمع بأعداد كبيرة في مكان واحد، لأن الجزء الأكبر من المقاتلين قد تجمعوا واحتشدوا في منزلين وسط الحي، بل علينا أن ننتشر ونتوزع على جميع المنازل ليغطي انتشارنا كل أجزاء الحي التي نسيطر عليها، وتحديدا الأطراف، واعتماد أسلوب الكمائن الثابتة، وأن يقاتل الجميع قتالا مستميتا للحفاظ على الأمتار التي يقف عليها.
الشق الثاني من التصور كان ضرورة التحرك منذ الصباح والعمل على توسيع بقعة الأرض التي نقف عليها، وذلك بالسيطرة على منازل إضافية وشن هجمات على الجنود حيث يتمركزون لاسترداد النقاط. كانت الجهة الشرقية للحي هي الوحيدة التي يمكن شن هجمات معاكسة عليها لأنها خالية من الجرافات.
استراحة المحاربين
بحثنا في أحد المنازل عن شيء يمكن أن يؤكل، فقد كان الجوع قد بلغ منا كل مبلغ. وجدنا بعض حبات من البطاطا سلقناها على عجل. أما عشاق القهوة والشاي فبحثوا عنهما قبل الأكل ووجدوا رشفات منها. رائحة القهوة المنعشة ملأت المكان وطغت على روائح البارود المنبعثة من الخارج. كوب شاي في هذه الظروف لا يقدر بثمن، ليس لأن من يرتشفونه عائدون من خط الجبهة الأولى، بل لأن الجو كان يرتدي حلة الشتاء من جديد. سالت أمطار غزيرة في أزقة المخيم وبين الدمار وحطام المنازل. كبار السن الذين كانوا معنا أكدوا أنهم لم يروا في حياتهم أمطارا بهذا الحجم في مثل هذا الوقت من السنة.
من حسن الحظ، أن جو الشتاء ساعدنا في مجريات المعركة، فالغيوم الكثيفة خففت حدة القصف الصاروخي، وكانت برودة الطقس النسبية توفر لأجسادنا نوعا من الراحة وتحافظ على طاقتنا الجسدية من النفاد السريع كالذي يحدث في الأجواء الحارة. الأهم أن البرد ساعد في المحافظة على جثث الشهداء.
صاروخ في المرحاض
في هذه الأوقات الصعبة الخطيرة، كنا أحيانا نتمازح ونضحك. من جملة ما تنادرنا به أن صاروخا دخل من نافذة بيت للراحة (المرحاض) وأحد المقاومين جالس يقضي حاجته فيه، ثم استقر الصاروخ بعد كسره الباب في غرفة مجاورة، وانفجر فيها مصيبا خمسة من أفراد المنزل والمقاوم جالس في مكانه لم يصبه أذى!
علق الشهيد عبد الهادي العمري على الموقف بالقول إن الصاروخ خجل من الحالة التي كان عليها الأخ، قائلا: "صعب على شرفه العسكري أن يؤذيه وهو في حالته هذه حتى لو اضطر إلى إصابة خمس نساء!". بعد كل ضحكة كنا ننطق "الله يستر"، وهذا جزء من ثقافتنا الشعبية، كأن الضحك الكثير نذير شؤم علينا.
لم يستشهد أحد من أفراد مجموعتنا حتى هذه اللحظة، لكننا كنا نشعر بأن الموت قريب. في ذلك اليوم نمنا خمس ساعات متواصلة، وهي مدة ممتازة جدا وفقا لأجواء الحرب. مع أن صاروخا أصاب باب المنزل مباشرة، وهو يبعد أربعة أمتار عن باب الغرفة حيث ننام، لم ننهض من فراشنا، بل تطوع عبد الهادي وخرج ليعرف حقيقة ما جرى، وما لبث أن عاد في أقل من دقيقة ليقول: "كملوا نومكم ما في إشي.. هذا الصاروخ ضرب الباب وفجره!".
بعد الاستيقاظ أجرينا عملية الاستطلاع لتفحص المنطقة، لم يكن في البيوت الأربعة الأولى التي تجاوزناها أي جندي، كان هناك قناصة في آخر منزل وصلناه في حي الدمج. بذلك استطعنا أن نتوسع شرقا حوالي سبعين مترا وننتشر في عدد من المنازل... يتبع