بالأمس وأنا اتابع وصايا الشهداء على قناة "المنار" استوقفتني صورة شاب رابطاً رأسه بعصابة سوداء. تأملته وتذكرته بعد طول غياب. عباس، يا إلهي، لقد استشهد العريس الذي دعاني في يوم من الأيام إلى عرسه، ومنعتني الموانع يومها من حضور زفافه.. ولعلها حجب الذنوب والتعلق بهذه الدنيا.
عباس ذاك الوادع ابن ميدون العظيمة، ميدون كربلاء زماننا. ميدون ام الشهداء وفاتحة عهد إذلال الصهاينة.
استميحك عذراً أيها الشهيد.. لأني لم أحضر زفافك الاول ولا زفافك الثاني إلى جنان الخلد.
أذكر تلك البسمة قبيل صلاة الصبح توقظ رفاقك بكل حنو، يا الله، الصلاة يا عباد الله.
أيام معرفتي بك وإن كانت قليلة، لكنها كافية لقراءة تلك القسمات، خشونة الكفين اللتين ما ملتا من حمل ما يمكن وما لا يطاق في سبيل الله... بصر الصقر في استكشاف الطريدة من بين الأغصان ولفائف العمر والشجر.
عباس عذراً يا قائدي.. كل التواضع امامك لا يكفي ولا يعادل قطرة دم نزفت من عروقك على اعتاب زينب(ع).
يكفيك فخراً انك بت في عداد سرايا العشق المقدس المنتظر لصاحب الزمان(عج).
يكفي ميدون أن في ترابها يرقد شهيد هو على درب شهداء الخضر.. وقصتهم سأرويها:
مع انتهاء الحرب العراقية الإيرانية بدأت قوافل الشهداء المطمورين تعود إلى المدن الايرانية، وكان لمدينة قم المقدسة نصيب منهم.
وفي تلك الآونة كان هناك حي جديد قد أقيم على سفح جبل الخضر. الحي بني بطريقة معمارية راقية وبكلفة عالية، ما جعل ساكنيه من طبقة معينة. وكون السياسة المعمارية او لنقل التنظيم المدني كان يدخل في خطط البناء كل احتياجاتها، فقد جعل المقبرة على مدخل الحي.
اعترض أحد الساكنين الجدد على موضع المقبرة وأنه من غير المعقول ان تحتل اول الحي القبور. لكن في النهاية قرار التنظيم المدني نافذ.
مع وصول دفعة الشهداء المكتشفين حديثاً تم دفنهم في تلك المقبرة..
في نفس الليلة قُرع باب جار المقبرة الجديد. فُتح الباب فإذا به أمام فتى بهي الطلة، مرتب المظهر.
"السلام عليكم". قال طارق الباب
"وعليكم السلام". رد صاحب الدار..
"اسمي .. سمعت انك منزعج من جيرتناـ وها أنا جئت اعتذر اليك مصطحباً معي هدية من مولاتي السيدة المعصومة(رض)، وهي تتعلق بشفاء ابنتك المريضة". أردف زائر منتصف الليل.
"سامحنا ونعتذر مجدداً. السلام عليكم". وادار الزائر ظهره ومضى.
ركض صاحب الدار باتجاه الطبقة العلوية من منزله منادياً على ابنته.
استفاقت الفتاة مذعورة. لا تدري ماذا هناك.
طالبها والدها بالسير وهي المشلولة.. وبعد إصرار غير مفهوم المصدر قامت الفتاة ومشت أمام دهشة والده.
غادر الرجل منزله إلى اول الحي باحثاً عن اسم الرجل الزائر، فوجده منقوشاً على شاهد قبر ضمن باقة الشهداء التي دفنت في ذلك اليوم.
فانحنى عليه يضمه، مقدماً اعتذاره لاثماً القبر ودموعه تغسل ما علق من أدران الدنيا في نفسه.
الشهداء أحياء وكراماتهم تعم الموجودات بما فيها أحقرهم من بني البشر.