كنت أتحايل على جهاز الراديو العتيق، حتى أمكّنه من التقاط الموجة صافية، ليمكنني هو بدوره من التقاط وقائع مناقشات جلسة مجلس الأمن. الحرب في يومها الثلاثين. نحن قابعون في هذه الغرفة، في إحدى الدور الكريمة في قريتنا. أنا لأنني لستُ مقاتلًا محترفًا - ولا فخر - كانت مهماتي في الحرب خفيفة، ولن أقول نظيفة، حتى لا يُنسب ما دون ذلك لغيرها. إنها خفيفة كخفة جهوزيتي. كنت مستعدًا لأداء ما يُطلب مني، ولكن الاستعداد وحده ليس كافيًا. القدرة أهم ويُعول عليها دون سواها. لذا انصرفت في أوقات كثيرة إلى المطالعة. من يصدق إنني أنتقل من كتاب إلى كتاب والحجارة والشظايا حولي تتساقط، بفعل الغارات التي ينفذها الطيران قريبًا منا بين الحين والآخر.
عددت نفسي محظوظًا، إذ إن المنازل التي تنقلنا بينها أثناء الحرب، كانت تتزين بمكتبة عامرة، خصوصًا محطتنا الأخيرة، إنها لا شك من أكبر مكتبات جبل عامل. أستأنست في حربي أكثر ما استأنست بأبي علي، سلام الراسي. أشتم رائحة كريهة ما من نعت الرجل بشيخ الأدب الشعبي، ذاك أن نسبة الأدب إلى الشعب تجرده من صلاحيته للنخبة، وأدب الراسي نخبويًا - ولا ريب - لأنه يقرب الشعب إلى الأدب، والعكس صحيح، والأهم أنه يؤدب الشعب، و"يشعّب" الأدب. "وعمرو لا كان قرّب النخب من التنين سوا" (الجملة الأخيرة اقتباسًا من أسلوب أبي علي الراسي "قُدِّسَ أدبُه"!).
جلتُ مع أدبه في جبل عامل. لا يذكر أبو علي الجنوب إلا لمامًا. إنه جبل عامل المنسوب اسمه إلى القبيلة العربية الأصيلة عاملة، الذي يتحدر منه شاعر القوم، عدي بن الرقاع العاملي، الذي عاصر الثالوث الأموي.
أقتحم غربتي عن الجبل لما يزيد عن الست سنوات قضيت معظمها بيروتيًا، أو قل ضاحيويًا. صرتُ مع الوقت تتبدل عاداتي وأورادي. بعد أن كنت أعشق البرية والهدوء والطيور وبساطة الأمور وانسيابها العفوي، صرتُ أستأنس بالعجقة والضجيج. النوم على شرفة مشرفة على شارع رئيس، ليله كنهاره، صار كحَدي الصوت الحنون "بالحِندَقَه والشعر الأشقر المنقى". الغربة عن القرية كانت قاسية جدًا. كنت أُلصق وجهي - ذات مرة - على شبك إحدى غرف الطابق السفلي في ذلك البيت. أخذت نفسًا عميقًا وأنا أتأمل الحقل الأخضر الجميل، المزهو بأشجاره وورده. تنشقت رائحة الغبار العالق على الشبك، فردتني إلى عالم آخر. الرائحة نفسها كنت أشمها على شرفتنا في منزلنا الكويتي في ضاحية الفحيحيل، حيث ولدت ونشأت. الله! ما سرُ هذه الرائحة. رائحة الغبار المشبع بلهب تموز وآب.
في الحرب خير لك أن تكون مقاتلًا!
للحرب مآثر إذًا، واحدة منها: إنعاش الهوى والذوق، وفتح كوة في الجدار بين الماضي ومع الجذور. لا شك، بعدما رأينا، أن أفضل لك في الحرب هو أن تكون مقاتلًا، أو شبه مقاتل مثلي، لا أي شيء آخر. الفلسطيني المقيم داخل فلسطين اليوم، مهما كان وضعه سيئًا ومترديًا إلا أنه يتقدم بمشاعره على مشاعر الفلسطيني اللاجئ. الأول يشعر بأمان لا يعرفه الثاني.
الترقب سيد الموقف. لا أستطيع أن أشرح لكم كم كان يؤذينا الكلام السياسي الهابط. أكثر من الصواريخ الساحقة الماحقة فعلًا. بكيت؟ نعم، بكيت حين شاهدت أطفال قانا في المجزرة الثانية. وجهت وجهي إلى السماء وقلت: يا رب ادفع عن أهلنا بنا. نحن مستعدون للموت دونهم. لا تفجعنا بهم.
الشهيد محمد يوسف دمشق وابنته فاطمة التي ولدت بعد استشهاده
على ذاك الراديو الأثري، التقطت موجة تبث شريطًا متكررًا، عبارة عن فلاش دعائي، ينفذه ناطق بالعربية المكسرة، يحث فيه المقاومين على الاستسلام. ويعدد الناطق المشؤوم أسماء شهدائنا الذين سقطوا في مارون وغيرها. محمد يوسف دمشق "جواد عيتا". محمد يوسف عسيلي. وسيم شريف. وسيم نجدي... نحن نعلم أن محمد دمشق رأس حربة في المواجهة، فكيف استشهد؟ هل سقطت مارون؟ لا شيء تصف فيه نعي أصدقائك، وبهذه الطريقة. هل هي حرب نفسية؟ أم أنهم فعلًا أصبحوا شهداء؟! ... يتبع