عائلة البكري، مجزرة "التهدئة الانسانية" - أحمد جمال الدين
اطمأنت المواطنة دعاء البكري، لما اسمتها إسرائيل "التهدئة الانسانية"، التي كان مقررًا بدؤها عند حدود الساعة العاشرة من صباح الثالث من آب/أغسطس الجاري. راحت السيدة الثلاثينية مبتهجة لتحضر طعام العشاء لأطفالها، غير انها اصطدمت بانتهاء مخزون الخبز. طلبت دعاء، الأم لطفلين، إلى زوجها شراء حزمة من خبز. خرج الرجل يتدبر الأمر، وبقيت هي على حالها تنتظر عودته، لكنها وفي لمحة بصر تنبهت إلى الاطمئنان على طفلتها راما (عام ونصف) فهدهدت على الصغيرة وهي هائمة في سريرها تغط في سباتها داخل إحدى الغرف، ثم راحت تكمل أعمالها المنزلية.
حينها تسلل صاروخان إسرائيليان خلسة إلى سطح المنزل المكون من ثلاثة أدوار، ويحوي عددًا من الأسر، فحطماه، وأسقطا طبقاته فوق رؤوس ساكنيه، ليتشتت شمل أسرة دعاء التي تقيم حاليًا في مشفى دار الشفاء بغزة وتراوح حالتها بين متوسطة وبالغة.
التفت الأهالي القاطنون في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة إلى الصاروخين وهما يحولان المكان إلى كومة حطام وغبار يعكر صفو الأجواء، فهرعوا مسرعين لنجدة من تبقى على قيد الحياة في هذا البيت المتواضع.
أحد شهود العيان، ويدعى أبو محمد عاشور، قال إن الصواريخ جاءت بغتة وصدمت سكان المخيم، خصوصًا أنها جاءت بعد سريان وقت التهدئة الانسانية بنحو ربع ساعة تقريبًا.
يضيف عاشور وقد جاء الغبار على ملابسه ولبد رموش عينيه، لقد هممنا لنجدة الناس، فوجدنا صغيرة على حالها في سريرها وقد أصاب وجهها بعض الخدوش، فحمدنا الله كثيرًا على أنها بقيت على قيد الحياة، غير ان رجال الدفاع المدني أخرجوا من تحت الركام أربعة شهداء.
والدة الطفلة راما، التي تخضع الآن للعلاج على اثر اصابتها اصابة مباشرة في رأسها وساقها، ما زال في اعتقادها أن اسرتها لم يصبها أي ضرر، لاسيما بعدما طمأنها زوجها على طفليها (كمال وراما)، حفاظًا على شعورها، كما قال.
زوج دعاء عاد إلى البيت بعد حدوث الجريمة بنحو نصف ساعة يحمل الخبز لأطفاله فوجد البيت أثرًا بعد عين. يقول، وعيناه مغرورقتان بالدموع: "لقد عثرنا على صغيري كمال (3سنوات) تحت الركام، و هو لا يزال على قيد الحياة، ولكنه كان مصابًا اصابة بالغة في انحاء متفرقة من جسده. لقد حاول الأطباء التعامل معه كثيًرا في غرفة العناية المكثفة لساعات طوال، لكن شاء القدر أن يفارقنا". يصمت أبو كمال، ماسحًا دموعًا بللت وجنتيه.
أما الأم المكلومة، التي تنتظر الآن إجراء عملية جراحية لنزع الشظايا من ساقها، تتطلع إلى أن يمن عليها القدر ويجمعها مجددًا بعد ايام مع افراد اسرتها، وتشير إلى أنه لم يكن يخيل إليها ان تجد نفسها في غمضة عين تحت الأنقاض، نتيجة قصف منزلها الذي ظنته آمنًا، لكونه بعيدا عن الاشتباكات الدائرة على الحدود الشرقية لمدينة غزة، ولا يحوي سوى المدنيين.
لقد حدثتنا السيدة، وهي في حالة يرثى لها، فيما كان زوجها يعد نفسه لأن يواري طفله "كمال" الثرى، ليبدأ الهمس داخل الحجرة. لقد تسرب إليها الخبر رويدا رويدا، إلى أن دوى صوت هز ارجاء المشفى، حين جاؤوا بالصغير مسجى بدمه محمولا بين ذراعي والده، فصرخت دعاء: "لا، يمّا يا حبيبي ما تروحش لسه بدنا نوديك الحضانة ونشتريلك أواعي العيد"، قالتها وغابت عن الوعي. هناك كان الجمع يقف صامتا، لا شيء يعلو فوق صوت البكاء داخل الحجرة.
بارتقاء الطفل كمال، يرتفع عدد شهداء عائلة البكري، إلى خمسة شهداء، وأكثر من ثلاثين اصابة بين متوسطة وحرجة. واجهت هذه الجريمة، موجة انتقادات على أثر انتهاكها التهدئة الانسانية التي اعلنت عنها اسرائيل لمدة سبع ساعات متواصلة من جانب واحد، تبدأ مع العاشرة صباحًا وتنتهي مع الخامسة مساء، غير أنها تملصت منها بعد اقل من ربع ساعة على بدئها.