بعد نحو ساعة فقط من المجزرة، سكن الهدوء ارجاء مركز الإيواء الواقع في بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة. لم يتبق هنا سوى شلال دم يغير ملامح الأركان ويكدر المكان وينشر رائحة الموت في فصوله، وعلى الباب الأزرق الذي يرمز الى شعار (الأونروا) ثمة شخص يقف يضرب كفا بكف ويحتسب عند الله أن يكتب للشهداء الجنة.
هنا فقط ترك النازحون - قسرا - امتعتهم وغادروا الى العلا، بعد أن حلت عليهم قذائف الحقد فجأة من دون سابق انذار، فغادروا تاركين خلفهم حقائب النزوح واغطية البرد وقليلًا من الماء وآيات الصمود.
هنا فقط لا تزال تمسك كريمة حمدان ببقايا وصايا شقيقتها الشهيدة، التي ارتقعت في القصف برفقة كوكبة مؤلفة من ستة عشر شهيدا، وهي تلقنها بعضا من آيات الثبات، وتقول وهي تنحب على فقدان شقيقتها: "ما فتئت توصينا بضرورة الصبر، لأن الصبر مفتاح الفرج، ثم بالاحتساب".
وتضيف حمدان، بنت الأربعين عامًا: لقد كانت شقيقتي منهمكة في جمع شتات اسرتها على مائدتي السحور والافطار، ثم ما يلبث ان يحل الليل حتى تبدأ بالبحث عن اغطية لتدثر الصغار الذين ينامون على ارض المدرسة، بعدما اضطررنا للنزوح عن مسكننا بفعل القصف المتواصل على المنازل الحدودية لليوم السابع على التوالي".
وبحسب افادة شهود العيان، فإن الفصول المدرسية تحولت في لحظة إلى حمام دم، حيث تناثرت الأشلاء على المقاعد، وانتشر الدم على الصبورات ليكتب حكاية مجزرة ويظل شاهدا على العدوان.
تقول شقيقة الشهيدة التي نجت من المجزرة: "فجأة انتفضنا على صوت القذائف تدب فوق رؤوس النازحين، وأخذ كل منا يبحث بين الدماء والأشلاء عن اقاربه. ثم مضينا لاحقا مشيا على الأقدام ونحن نسعف الجرحى ونجمع الاشلاء، والعويل والصراخ يعلو من كل جانب. لقد كان المنظر مروعا. لم يخيل لنا أن نعيش مجزرة كهذه!".
هنا فقط اطلقت اسرائيل جام غضبها ونيران حقدها على المديين العزل، بعد أن كانت قد اوعزت إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) بضرورة اخلاء المدرسة لدواعي تدميرها، ولما جمعوا الناس في باحة المدرسة تمهيدا لنقلهم، بحضور وفد الصليب الأحمر، سقطت حمم الصواريخ على المواطنين النازحين، فحولت سبعة عشرة منهم الى كومة لحم متناثرة، فيما اصابت نحو 200 اخرين، اكثر من 20 منهم في حالة الخطر الشديد، وفق مصادر طبية.
هذا الاستهداف الذي ادانته كل الأطر والمؤسسات الحقوقية، على اعتبار انه جريمة حرب، خالف ما حصل قبل يومين من حدوث الجريمة، حيث مهدت إسرائيل لقصف مدارس "الأونروا" بإخطار من فيها في مخيم المغازي، وسط قطاع غزة، وما لبث النازحون أن هربوا من أربع مدارس حتى استهدفتهم طائرات الاحتلال. غير أن ما حصل في مدرسة بيت حانون يدلل على أن بنك الاهداف الصهيوني بات فارغا، وان الطيران يبحث عن نصر وهمي فوق جثث الأطفال والنساء.
على أرض المدرسة التي تحولت باحتها الى بركة حمراء قانية، اختلط فيها دماء الرضع مع كبار السن والامهات، يسترجع ذوو الشهداء ذكرياتهم القليلة، واخر تراتيل الليل المرعبة والمشاهد الاخيرة التي ما زالت عالقة في اذهانهم.
يقول النازح حسين الشمري(25 عامًا): إن المدرسة بمن فيها كانت تتحسس الأمن كل في ركنه، فيما كانت النسوة يجلسن داخل الفصول، وفجأة دب خبر نية استهداف المدرسة من جانب الاحتلال كالنار في الهشيم، فأخذ الجمع يحصي اغراضه.
أضاف الشاب الغزاوي: "أخبرتنا الأونروا والصليب الأحمر بأنهم سيجلبون حافلات لغاية نقلنا إلى مكان أكثر امنا، ولكننا صدمنا بأن امطر الطيران المدرسة بالقذائف بغتة، فقتلت من قتلت واصابت من اصابت".
ما زالت عالقة في ذهن الشمري، الذي فقد خمسة من افراد عائلته، التفاصيل الأخيرة من المشهد الكارثي، فيقول: "لك ان تتخيل كيف ان اناسًا هاربين من الموت يجلسون يحدثون بعضهم عن امكانية وقف اطلاق النار، واخرين يبحثون عن مأكل ليتناولوه على مائدة الإفطار، وفجأة يباغتهم الموت في الوقت الذي كانوا يشعرون فيه بأنهم في مأمن عن مرمى الصواريخ".
تلك المجزرة، أعادت إلى ذاكرة اهالي قطاع غزة، حادثة قصف مدرسة الفاخورة التابعة للوكالة الدولية في مخيم جباليا شمال مدينة غزة، حيث شهدت ارتقاء 43 شهيدا على اثر القاء الطيران الحربي قذائف فسفورية فوق رؤوس النازحين آنذاك، بعد أن كانوا قد اخلوا مساكنهم هربا من قذائف الحرب الأولى على غزة 2008-2009.
حاولت "الاونروا" التنصل من مسؤوليتها تجاه ضحايا الجريمة التي وقعت في اليوم الثامن عشر للحرب، التي بدأتها اسرائيل في السابع من تموز/يوليو الحالي.
كتب كريس غونيس، المتحدث باسم الوكالة الدولية على تويتر، إنه "تم إرسال الإحداثيات الدقيقة لهذا الملجأ في بيت حانون رسمياً إلى الجيش الإسرائيلي. أمضينا قسمًا كبيرًا من النهار نتفاوض لوقف النار، وكنا نريد إخلاء الملجأ لأن معارك كانت تدور قرب المدرسة.
فيما الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها حركتا حماس والجهاد الاسلامي، كانت قد وصفت الحادث بالجريمة البشعة وبأنها استباحة للمؤسسات الدولية وتجرؤ خطير على الدم الفلسطيني، متوعدة الاحتلال بأنها لن تمر من دون حساب، والأيام التي تلت المجزرة تشهد على استيفاء الحساب من القتلة.