اسرة الكيلاني:احلام صغيرة فتتتها الصواريخ - أحمد جمال الدين
اجتهد المهندس ابراهيم الكيلاني ذو الثلاثة والخمسين عامًا، في اختيار مسكن آمن بديلا من منزله الواقع في قرية بيت لاهيا شمال قطاع غزة، بعد أن انذرته قوات الاحتلال بضرورة اخلاء المنطقة الحدودية تمهيدا لاحتياجها بريا، فنزح الرجل بأسرته... قبل ان تفتت القذائف جماجمهم وتحولهم إلى أشلاء، حيث نزحوا.
في الليلة الثالثة من الحرب الضروس، التي يشهدها قطاع غزة، انتظر المواطن الكيلاني ساعات الصباح بشغف، خصوصًا أن تلك الليلة دفعت بأبنائه إلى الجلوس القرفصاء حوله، يرقبون هدير الدبابات وضربات القذائف.
احتمى الأطفال الخمسة بأبيهم كما لو انه درع واقٍ، فيما التصق صغيرهم إلياس، ذي الأعوام الأربعة، بصدر امه يتحسس الأمن والسكينة، نظرا إلى اتساع دائرة الاشتباكات في محيط المسكن والضربات الجوية المتلاحقة التي كانت تزلزل الارض من تحتهم، و تحول بينهم وبين النوم.
استقل الكيلاني وأسرته، وهم من حملة الجنسية الألمانية، سيارة واتجهوا إلى حي الشجاعية حيث يقيم اقارب الزوجة. آثروا اللجوء اليهم لاعتقادهم بان مكان اقامتهم شرق مدينة غزة أكثر امنا من مسقط رأسه (بيت لاهيا).
ليلة واحدة في مسكن الأقارب بحي الشجاعية قضتها اسرة الكيلاني، الذي تخرج من احدى الجامعات الألمانية ويحمل شهادة في الهندسة المدنية، وعاد الى مسقط رأسه (بيت لاهيا) قبل نحو ثلاثة عشر، حيث افتتح مكتبا خاصا للأعمال الهندسية. تلك الليلة كانت كفيلة بأن تدفع بهم هربا من هول ما رأوا، حيث سقط اكثر من 100 قذيفة على الحي، مدمرة عشرات المنازل فوق رؤوس ساكنيها.
همت الأسرة مجددا، وبعد تدخل من طواقم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بالنزوح إلى قلب المدينة. أثناء خروجها كان الأطفال الخمسة يتشبثون اكثر فأكثر بوالديهم وهم يرون الركام والدمار يحيط بهم من كل جانب، وكأنما زلزال ضرب المنطقة فاضحت كومة من حجارة.
يقول أحمد أخ زوجة الكيلاني، إن الأسرة خرجت من دون ان تعلم أين تحط برحالها، إذ ان الأبناء ظنوا انهم نجوا بأنفسهم بعد سقوط نحو مئة شهيد في الحي الذي اقاموا فيه.
اعطى المواطن الكيلاني ظهره صباحا لأقصى شرق مدينة غزة، واتجه الى قلب المدينة غربا يبحث عن ملجأ، إلى أن اهتدى هو وأقاربه إلى استئجار شقة سكنية في بناية "السلام" المكونة من عشر طبقات، بحي الرمال الذي يعد الأكثر استقرارًا وأمنًا، لبعده عن ضوضاء الحرب الطاحنة التي تشهدها الحدود وصوت الصواريخ الصاعق الذي يفتت البنيان.
هّم صغار أسرة الكيلاني، مندفعين نحو الشقة للراحة من عناء الترحال والنزوح، وهم يحملون قليلًا من الامتعة وبعض الاغطية ليتدثروا من نفحات الصواريخ التي ملأت قلوبهم رعبا وخوفا.
يقول أحمد شقيق زوجة الكيلاني إن الأطفال سرعان ما القى كل منهم بجسده النحيف على المقاعد يتنفسون الصعداء، بعد ان نجو من الموت بأعجوبة، فيما اخذ الوالد يجري اتصالاته مع اقرانه وأفراد عائلته ليطمئنهم إلى بلوغه المأوى بسلام وامن.
قضت الأسرة يومها نائمة بعد يومين شاقين من الترحال والتنقل، في جو اقرب ما يكون الى المشهد الذي عايشه الفلسطينيون زمن النكبة الأولى العام 1948.
بناية"السلام"! حيث قضت عائلة الكيلاني
هنا بدأ الأطفال أكثر اطمئنانًا، وهنا ايضا اخذت الأم "تغريد" تعد لهم الطعام وهي سعيدة بأن الله كتب لها ولصغارها عمرًا جديدًا، لاسيما انها رفضت مغادرة القطاع مع الرعايا الألمان الذين وجهت لهم الخارجية الألمانية دعوة للخروج من غزة على وقع الحرب الضروس.
بعد يوم عمل شاق في المطبخ، اعدت فيه الأم الطعام لأبنائها، هم صغارها وتحلقوا على السفرة في انتظار رفع اذان المغرب، وحلول موعد الإفطار، إلا أن الصواريخ الحاقدة كانت لهم بالمرصاد. سقطت على المبنى كالصاعقة فحولت ست طبقات منه الى رماد، وفتت أحلام الأسرة المسكينة التي كانت تهدهد على صغارها كالحمامة.
بمجرد أن أعلن خبر الاستهداف، سارع اقارب الاسرة الى مشفى الشفاء لتفقدها، كما يقول أحمد شقيق الزوجة، ليستوقفهم المشهد المؤلم حين رأوا جثث اخته وزوجها وابنائها الخمسة مسجاة على الأرض، والدماء قد جفت في عروقها بعد ان حولها القصف الى إشلاء.
يتساءل احمد والدموع تنساب على خديه: "ما هو الذنب الذي اقترفته شقيقتي لتموت بهذه البشاعة. انهم آمنون احتموا من مكان الى اخر حفاظا على صغارهم، الذين كانوا يحلمون بمستقبل مزهر يحققون فيه احلامهم ليصبح احدهم طبيبًا والآخر مهندسًا كأبيه، ولكنه الاحتلال الذي لا يفرق بين مقاوم ومدني وبين طفل أو شاب!".
هنا داخل مقبرة الشيخ رضوان، حيث ووريت الجثامين الثرى، استراحت العائلة من عناء التشرد والنزوح، واستقرت ارواحها في الجنة، تاركة خلفها ارث احلام بسيطة سقطت قبل ان تتحقق، فيما سيسجل التاريخ يوما أن اسرة آمنة افترستها آلة الموت الصهيونية دونما ذنب اقترفته أو جريمة استحقت ان تعاقب عليها.
وبذلك تحولت اسرة الكيلاني إلى رقم جديد في سجل الأسر الفلسطينية المكلومة، التي تزيد عن 50 اسرة، حولتها حمم الطائرات الى ارقام في سجل الشهداء الذين يزيد عددهم عن 800 شهيد. والعدد يزيد وأنت تقرأ هذه الكلمات...