- اذهب انت يا أخي، في بيتك ولدٌ ينتظرك. ابنك لم يكبر بعد، وفي زواريب الحياة سيحتاج كثيرا لمناداة "يا أبي".
- أنت قلتها! في الحياة من يحمل اسمي. تزوجت وأنجبت ولدا، وأنت بعد لم تتزوج. اذهب أنت يا مروان!
- لا! لن أغادر بيتي! لقد عزمت على الأمر، سأبقى هنا في المواجهة، هيا اذهب بسرعة قبل أن يحيطوا بنا من كل الجوانب! بالله عليك هذا ليس وقتا للنقاش! وإن بقيتَ حيا سلّم على كل الأحبة! إذهب في أمان الله!
لم يجد زميل أيام الصمود والمواجهة سبيلا إلى اقناع مروان بالانسحاب. انسحب تحت وابل نيران مروان الذي قرّر أن يغطي عملية خروج زميله بعد أن دخل الصهاينة القرية وصارت المواجهات من بيت الى بيت في عيناثا.
هو أمر الأمين العام بأن لا يلتزم الشّباب بالجغرافيا. هكذا تكون قرى الجنوب للمرة الثانية مقبرة للإسرائيليين، بعد تحرير الـ2000 في أيار، كي يعرف اليهود أنّ في الجنوب، حتى حجارة الأرض تقاوم غزاتها.
ومروان سمحات* كان في بيته مع زميله في مهمة مراقبة طيلة أيام حرب تموز، لكنّ الصهاينة اكتشفوا الأمر وبدأوا يرمونهم من بيت الجيران الذي لا يبعد أكثر من أمتار عن بيت أهل مروان.
وفي ضوء هذه المواجهة المباشرة، على أحد من الشابين أن يضحّي لأنّ المعركة غير متكافئة، والمدد العسكري لم يصل بعد. على أحد المجاهدَيْنِ أن يتولى الرماية ليخرج الآخر من المنزل وإلا استشهدا معا، أو وقعا في الأسر، الأمر الذي يفضّلان الشهادة عليه.
صار مروان يرميهم بعزم شاب في الخامسة والعشرين من عمره. شاب خرج أهله من عيناتا بعد صمود عشرة ايام، بعد أن أودعوه أمانة أحلامهم بأن يروه عريسا مع عروس فاتحوها في موضوع الزواج قبل يومين فقط من حرب تموز.
ومن المطبخ الذي حمل رائحة الأم تحضّر طعام الحب للعائلة، كان يرميهم. لا شكّ بأنّ في رأسه الكثير من صور عائلته الحانية، فهنا كانوا يجلسون لتناول الترويقة وتبادل الأحاديث والفكاهات. هنا طبعت على جبينه قبلةَ قبل ذهابه الى المدرسة، هنا مسح الأب على رأسه، وهنا أيضا تمازح هو وأخوته.
وهنا شاء الله أن يحاربه أعداء الإنسانية جمعاء. ها هم يرمون البيت، مصدر الأمان، ويرمون المطبخ، مخزن الحنان، ومروان ابن عيناثا، يأبى إلا أن يدافع عن بيته كما رباه أهله.
وسط خيوط الذاكرة ودموع الشوق، وتساؤلاتٍ عن مصير أحبةٍ خرجوا تحت القصف، رمى الإسرائيليون على مروان قذيفة أصابته.
"أين أنت يا أمي، يا أبي، يا إخوتي، للمرة الأولى أرى بيتي خاليًا منكم وأنا في أمس الحاجة الى أيديكم". تمتم بكلماته الصمّاء، عندما نظر حوله ليرى الدماء تغسل ثيابه وجسده.
وقع على الأرض وحيدا. للمرة الأولى لن يسأل أخاه المساندة لينهض، ليقوى على السير والنوم في مكان يسعف فيه نفسه. تمدّد الألم في جسده، لكن عليه النهوض!
عيناثا بعد حرب تموز
يعرف أن عليه المكابرة والتغلّب على الوجع. هنا في حرب تموز لا مكان للتهاون حتى مع الألم، فالساحة هي للقتال فقط، والإسرائيليون على بعد أمتار، عليه أن يفعل شيئًا كي لا يأسروه، أو يأسروا جسده، ربما عليه الاختباء في مكان مغلق لا يجدون اليه سبيلا.
بعد الحرب، وفور توقف إطلاق النار عاد الأهل الى القرية. كان شقيقه "نضال" أول من صعد الى المنزل ليواري كل آثار أخيه، ليمسح الدماء عن المجلى والحائط والأرض تحضيرًا لدخول أهله الى بيتٍ حضن آخر لحظات مواجهة ابنهم البطل.
تتّبع نضال موقع آثار الدماء، بدءًا من حائط المطبخ الذي عليه آثار يد مروان وهو يحاول الوقوف طالبا المساعدة من حنية الطلاء، مستقويًا على الألم بنداء "يا أبا عبد الله الحسين (ع) ساعدني".
ورويدا رويدا، بالكثير من الألم وهو يتتبع مواضع الدماء، وصل الى كاراج البيت، حيث كان الشباب يستريحون بعد القتال. رأى فراشا ألقى عليه مروان جسده، فامتصّ كل دمه وهو ينادي على الجهاز "لقد نزلت الى الكاراج وأقفلت على نفسي كي لا يأسروني، أنا أنزف، إن استطعتم المجيء اليّ أسعفوني".
رأى نضال فراشا أحمر قانيًا، لكنّه لم يجد شقيقه، حاله مثل حال الشباب الذين سبقوه ليكتشفوا ما اكتشفه.
وهنا كان الألم الأكبر، كيف يخبر الوالد بأنّ ولده لم يستشهد فحسب، بل أن لا جسد له يُوارى، فمروان شهيد وأسير، بعد أن قادت دماؤه الزكية عدوّه الى حيث ودّع الحياة.
تمالك نضال أعصابه، وهو يدعو الله لإنزال الصبر والسلوان على قلب والدين انتظرا بفارغ الصبر رؤية عزيزهما بعد 33 يوما من الغياب.
- أبي، عظّم الله لك الأجر. استشهد مروان.
- اللهم تقبل منا هذا القربان! الحمد لله يا ربي!
- أبي. عليك أن تعرف أمرًا، لم نجد مروان بين الشهداء. أخي أسير بأيديهم، لكن الحمد لله فهو في رحمة الله وليس تحت رحمتهم. فقط جسده في الأسر..
فما كان من الأب إلا أن خرّ ساجدا:
- الحمد لله يا ربي، أكرمتني بنعمتين وأكرمت ولدي بكرامتين! الحمد لله.
*الشهيد مروان سمحات استشهد في حرب تموز 2006 في المواجهات مع الصهاينة في قريته عيناثا. وتمّ أسر جسده الشريف الذي استعادته المقاومة سنة 2008 في عملية الرضوان.