ليس بمقدورك ان تطأ قدمك أرض المجزرة التي شهدتها عائلة البطش بحي الشجاعية شرق مدينة غزة، من دون أن تغلق أنفك، فدم الشهداء الثمانية عشر الذين سقطوا هنا تحت ركام منزلهم، ما برح المكان بعد مرور ثلاثة أيام على حدوث المجزرة.
مازال هناك بصيص أمل لدى أطفال هذه العائلة ممن أسعفه القدر بالبقاء على قيد الحياة، فبعضهم يبحث عن بقايا أمهِ، وآخرون ينقبون عن أشلاء آبائهم، وعن كل ما لم تستطع آلات الدفاع المدني العثور عليه. بعض التوابيت ووريت في الثرى من دون أن تحتوي تلك على شيء من أشلاء أصحابها المفترضين.
في ركن مقابل للمبنى المدمر بشكل كامل، يجلس ذاك الطفل الصغير الذي ظفر بإعجاب مئات النشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي ويدعى أحمد، وهو ينحب على والديه أثناء تشييع جثمانيهما، وقد بدت عليه ملامح البؤس والألم بعد ان سرق منه الطيران الحربي أبويه.
انه يعد الحصى، تلك هي شغله الشاغل – هكذا يقول احد أبناء عمومته- مازال واقعًا تحت تأثير الصدمة، لا تساعده ذاكرته الصغيرة على استيعاب حيازة اللقب الجديد "يتيم".
المار من أمام بيت عزاء الشهداء الثمانية عشر لا يبرح المكان حتى يذرف دمعتين ويلهج بقليل من الدعاء ليرحم الله الشهداء ويعين ذويهم على الصبر والسلوان، فهم مازالوا جميعا واقعين تحت تأثير الواقعة التي صنفها خبراء القانون في غزة على أنها جريمة حرب.
عن زمن حدوث الجريمة، يؤكد الشاب شادي البطش، القاطن في الحي ذاته، إن أبناء عمومته من النساء كن مساء السبت الماضي، وتحديدًا بحدود الساعة العاشرة والنصف داخل المنزل، فيما كان رجال البيت المكون من ثلاثة أدوار، ذاهبين لأداء صلاة التراويح في مسجد الحي، وأثناء عودتهم من الصلاة باغتتهم طائرة حربية من طراز (أف16)، أطلقت جام حممها صوب المبنى فدمرته على رؤوس قاطنيه.
المأساة لم تقف عند هذا الحد، إذ طالت نيران الصواريخ الحاقدة منزل الجيران فتضرر بشكل بالغ، وأصيب من أصيب وقتل من قتل، ليرتفع عدد الشهداء إلى 18 شهيدًا وأكثر من خمسين جريحًا بجراح خطرة. يلفت شادي الى أن أسرة أبناء عمومته الذين كانوا في المنزل هم نحو عشرة أفراد (ثلاثة فتيات وأربعة فتية والأب والأم).
خطف مشهد آل البطش الأنظار في قطاع غزة، لهول الجريمة التي تعرضوا لها، وهم يتصلون بقرابة إلى العميد تيسير البطش، مدير عام الشرطة الفلسطينية في قطاع غزة، والذي مازال يخضع للعلاج في مشفى الشفاء، بعد تعرضه لإصابة خطيرة جراء القصف.
يشير أحد جيران العائلة، أبو سليمان، إلى أن قوة الانفجار في المنزل أدت إلى فقدان أشلاء عدد كبير من الشهداء، جراء تطاير أجسادهم وطحن الركام لعظام الآخرين.
يبحثون عمن كانوا هنا
ويعد استهداف أسرة البطش هو الأبشع مقارنة بالمجازر التي تعرضت لها الأسر الأخرى، وذلك منذ لحظة اندلاع الحرب في غزة في السابع من يوليو/تموز الحالي، والتي خلفت إلى الآن سقوط نحو 180 شهيدًا، وأكثر من 1300 جريح. والمفارقة أن العائلة التي طمر الركام أبناءها، آثرت إلا أن تواري بقايا أجسادهم الثرى في أرض المنزل المدمر، فلم يعد هناك حاجة لإعادة بناء الدار مجددًا لأن قاطنيها رحلوا إلى الدار الآخرة.
رائحة الذكريات تنبعث مع كل نسمة تهب من فوق بقايا الركام الشاهد على المجزرة، ونساء الحي يناظرون المكان من الشرفات وينحبون على سنين جمعتهم مع صاحبة هذا البيت (آمال حسن البطش) التي اشتهرت بسمعتها الطيبة ودماثة أخلاقها. ورغم محاولات الدفاع المدني الحثيثة لانتشال كامل الأشلاء، إلا أن خمس فتيات مازلن مفقودات حتى اللحظة، وتواصل طواقم الدفاع المدني البحث عنهن.
تقول أم عبد الله، إحدى نساء العائلة المكلومة، بعد ان استجمعت قواها: "لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها، فالفتيات قد صعدت أرواحهن إلى السماء، أما الجسد فذاب بين الأنقاض"، وتضيف بعد أن مسحت الدمعة الجارفة على خدها: " لقد ذهبن إلى الجنة كالعرائس. كن يحلمن بالمستقبل المشرق، لكنه القدر أراد لهن أن يقمن في السماء، بعيدًا عن صوت الرصاص والموت الحائم فوق رؤوسنا".