الذكرى 8 لعدوان تموز: إرادة الحياة والذاكرة - جلال شريم
الضاحية خلال عدوان تموز - الصورة من دير قوبل(الصور بعدسة جلال شريم)
لن أنسى صبيحة ذلك اليوم عندما استمعت الى خبر عاجل عبر احدى الاذاعات المحلية عن تعرض دورية صهيونية معادية لهجوم قرب الحدود اللبنانية. كان شعوري لا يزال متأرجحًا بين الحلم والتيقن من حصول عملية أسر، عندما جاء أحد الاصدقاء مقترحًا أن نتناول "ترويقة فول عند أبو حسين". ضحكت وقلت: " ألم تسمع الأخبار؟". " أجاب بلامبالاة الواثق: "ماذا سيفعلون؟ نحن معتادون على ذلك". ضحكت مرة أخرى وقلت: "ليس الدافع الخوف، يا صديقي، بل حب متابعة التفاصيل، سأقضي الثواني على أحرّ من الجمر". قال: "وماذا سيضيع علينا؟ حتمًا سيكون في المطعم تلفاز أو راديو ينقل الأخبار. هيا بنا". ترافقنا معًا، ونحن على الطريق جاء الخبر اليقين: المقاومة تمكنت من أسر جنديين للعدو. وصلنا الى المطعم، التقينا بأحد الأصدقاء وكان الحديث حديث الساعة.
- منذ أيام كانت الضربة في غزة(*)، واليوم في الجنوب.
- انحدار في صورة الصهيوني الذي لا يُقهر".
- إذا تنامى هذا الانحدار فإن شعار "اسرائيل إلى زوال" وُضع على سكة التنفيذ الصحيحة.
- أعتقد أن الرد الاسرائيلي سيكون عنيفًا إذًا، للحفاظ على هيبة الكيان الغاصب، وترميم قدرته الردعية المزعومة.
- قد يكون ردهم عنيفًا، لكن من دون طائل يا أصدقائي.
رجعت إلى مقر عملي، وبدأت الأخبار تتوالى. وبدأ القصف الصهيوني بالاتساع متجاوزًا منطقة العملية، حتى وصل إلى بيروت. بدأنا نسمع عن حالات خروج من الضاحية ونزوح من الجنوب خوفًا من العدوان المتنامي. سألني كثيرون عن الوجهة التي سأنتقل إليها، وكانوا لا يُصدّقون عندما أقول لهم بأنني باقٍ في المنطقة. مضت الليلة الأولى ونحن صامدون في شارع عبد النور في حارة حريك. وصل القصف إلى المحيط، مستهدفًا عددًا من المباني القريبة، ومدمرًا جسورًا في المنطقة. توالت الاتصالات الهاتفية تنصحني بمغادرة الضاحية. صبيحة اليوم التالي توجهت بشكل شبه طبيعي إلى العمل، ولاحظت حركة السير شبه المعدومة. في اليوم الثالث، عند المساء، كانت مفاجأة "ساعر 5"، التي ألهبت المنطقة برصاص الابتهاج، ونقلتنا من واقع إلى آخر.
في منتصف الليل هاتفني أخي، وكرر إلحاحه علي بالانتقال إلى منزله الجبلي القريب المطل على الضاحية. رفضت في البداية، لكنه أصر وقال: "هذه المرة الثالثة التي أهاتفك بها. سيأتي صهرنا بعد قليل لاصطحابكم". بعد أقل من ساعة جاء أبو رامي بسيارة تحمل شعار المحطة التلفزيونية التي يعمل فيها، فهي أكثر أمانًا، أو على الأقل هذا ما كنا نظنه، وكان مرتديًا ثيابًا "مدرعة"، مع خوذة للحماية.. انطلقنا صوب دير قوبل(**). مررنا وسط الدمار والبنايات المتساقطة. وعندما وصلنا انطلقت سلسلة من الملامة انتهت بـ"الحمد لله على السلامة". مرت أيام الحرب الطويلة، كنا نتابع فيها التفاصيل ليلًا ونهارًا، كأن النوم هجرنا، وكانت دورة الحياة اليومية شبة عادية رغم كثرتنا واجتماعنا في منزل أخي.
عندما خفت حدة القصف في أحد الأيام نزلنا إلى الضاحية. تفقدت مكان عملي. وعندما أعلنت الهدنة للإفساح بإخراج بعض السكان من قراهم، طلبت من أخي مرافقتي إلى قلب الضاحية. تفاجأ الجميع بهذا الطلب واستنكروا... قلت لهم: "يجب أن أحضر كتبي، علي التجهّز للامتحانات الجامعية" . قالوا: "ولكن أنظر إلى الوضع". قلت: "الكتب خير تسلية في هذا الوضع، ويجب أن أكون على استعداد لتقديم الامتحانات عندما تضع الحرب أوزارها. يجب ألّا أضيع الوقت، فالامتحانات ستعود كما هي دورة الحياة". وفعلًا ذهبنا في تلك الأجواء المشحونة. أحضرت بعضًا من كتبي الجامعية.
كنا نسمع عن قصف مناطق الضاحية، وكنت أحاول أن أتخيل حجم الدمار اللاحق بها. كنت ألتقي ببعض الاشخاص فأسألهم عن الأماكن المقصوفة والمباني المدمرة بالتحديد. وأتابع شاشات التلفزة حتى أكمل مشهدي الذهني المتخيل والمسموع عبر البعد البصري. فأحس عبر هذه الابعاد الثلاث أن ثقبًا جديدًا يصيب ذاكرتي. كان الثقب الأول عندما تم اعتقالي، ونُقلت من حيز مكانيّ إلى حيز آخر. لقد ثقبت ذاكرتي حينها، وغن قصرت مدة اعتقالي، وحاولت جاهدًا بناءها من جديد داخل المعتقل، تحت سياط العدو. وثقبت ذاكرتي مرة أخرى عندما خرجت من منطقة الشريط الحدودي المحتل، ولم أعد قادرًا على العودة إلى قريتي المحتلة. صرت ملزمًا بالبقاء في بيروت، عليّ بناء ذاكرة جديدة... وذلك من فعال الاحتلال.
أخذت وقتاً طويلًا حتى بنيت ذاكرتي من جديد في بيروت: حفظت الأمكنة والشوارع. بنيت صداقات جديدة. وصار عندي ذكريات عن الأماكن والمعالم. جاء العدوان التدميري في تموز 2006 كي يمحو كل تلك الذاكرة من الوجود. لكن إرادة الحياة أقوى. لقد محا العدو ذاكرتي مرات ثلاثًا: جلد بسياطه كياني، فكفك المعالم، غير التفاصيل، ذلك هو مخطط كل محتل، ومنهاج كل مستعمر... لكن إرادة الذاكرة كذلك أقوى. ستبقى الذاكرة الإرثَ الذي سينبني وينتقل من جيل إلى جيل.
(*) إشارة إلى أسر الجندي الصهيوني جلعاد شاليط.
(**) بلدة جبلية صغيرة تبتعد قليلًا عن الشويفات إلى الأعلى، وتطل على بيروت بعامة، والضاحية الجنوبية بخاصة.