ابتسم ودونَ جوابٍ لمصلّاهُ عاد، حتى اقترب فجر الجمعة واقتربت نوبة حراسته، جدّد وضوءَه وجاءَ إلى النقطة. فيها كبّر للصلاةِ وسجد، وفيها العهد مع صاحب العصر جدد، ولسانه بندبة الجمعات استصرخ:
"هل إليك يا ابن أحمد سبيل فتلقى؟ هل يتصل يومنا منك بغده فنحظى؟ متى نرد مناهلك الروية فنروى؟ ...".
عيناه تعلقتا على اخضرار تماوج حذرًا تلك الصبيحة، وقلبه لرايات الفتح القادمة من أفق المجد كان ينتظر، حتى استتم نوبته ومنها لبعض فتات الخبز وبضع بيضات من صيد الأمس، عاد يعدها لمن عانقت عيونهم الشوق انتظارًا طيلة الليلة الفائتة. سريعًا، أحضر الفطور وربما نسي تناوله.
- يا شباب حضروا حالكم بدنا نروح نستطلع البستان. وأنت علاء حضر حالك رايح معنا.
للجمعة اغتسل وتطيّب، وبيض ملابسه. كانت تحاكي شعيرات رأسه البيضاء المبللة.
- نصف ملاك ونصف مقاتل. ما تبلى هالشبوبية يا حاج. بادلته ابتسامات ونظرات.
نحو العاصي بين الأغصان المتشابكة قصدنا. بحذر كنا نعالج شوك الحقول، ورائحةُ الأرضِ بخورٌ تنثرُه السماءُ فوقَ فوهاتِ بنادقِنا المشتاقةِ إلى التحام. بين حركةٍ ونارٍ كانَ الرهطُ يتقدّم، وللحاج حاتم تمتماتٌ تشبه هديل الحمام، ما كنت أفهم منها إلا حرف الزين حين يرنُّ بين أسنانه، فأعرف أنه للزهراء،ينشد وباسمها يتغنى. حتى إذا ما صرنا على أعتاب "الجوادية "، وصار العاصي فراتًا يتراءى لنواظرنا أُمْطِرْنا بوابلِ النار. كان الرصاصُ يقصِدُ إلينا قصدًا من على بُعدِ أمتارٍ لا تتجاوزُ خمسة عشر. وكنّا ندفعُه برمياتِنا من خلفِ تلك الشجيرات، وبنبضاتنا التي استبشرت خيرًا ذات التحام. والحاج حاتم في مقدمة الركب يزغردُ رصاصُه، وترتِّلُ صيحاتِه آياتِ النصرِ. ما زلنا ندفعُ عن مقامٍ ارتسمَ ظِلُّهُ فوقَ مياهٍ شابهت "العلقمي" جريانًا وامتناعًا.
جاءَ الأمرُ من غرفةِ القيادةِ بالانسحاب. بدأنا نتراجع ومطرُ الحرب بعنفٍ يضرب الأرض. وهذا صديقي الملائكي يستدير ليغيّر مكانَه. على خاصرته تعلّق رسولُ الإله؛ رصاصةُ العشق شقّت سبيلها إلى جسمٍ أبلاهُ طول انتظار. أمام ناظري هوى، وكأنّ الأرضَ فتحتْ ذراعَيْها واستقبلَت وجهَه. عُدتُ إليه فسمعتُ من روحِه آياتِ الوداعِ، شهقتين وزفرتين. عبثًا حاولت استنهاضه. تمتمت في أذنه شهادة ووصية، ويدي ما زالت تطلق رصاص ثأرها، والحرب حولنا هوجاء تعوي. خلفي دم ينزف أيضًا فوق روح لصيقة. حملت ذاك الجريح على كتفي، وعلى الكتف الآخر بندقيته، وفي رقبتي ذنبُ رفيق دربي ممدّدًا قربَ "العلقمي" تغزوهُ الضواري. لم يَطُلْ ذاك الشعور، لأنّ الدعمَ كان قد وصل، وعدنا إلى ساحة الحرب تلك، عدنا نطلب أبانا الذي خلفناه هنا منذ ربع ساعة.
سبع ساعات من الكرّ والفرّ. وصلنا بعدها إلى الضفة المباركة، حيث كانت أشلاء قتلاهم متناثرة في كل مكان. كنا نسعى لذاك الطيّب يرشدنا إليه عنبر تضوّع في ساحةِ عشق. لا أثر للشهيد هنا، ولا بقية منه غير العنبر.
الثامنة مساء استراح القتال. ظللت على قارعة الليل أنتظر رجوعه من مغيب؛ لا بد أن يعود ليصلي جمعة اغتسل لها ثم فاته أداؤها. غسلتُ بندقيَّتَهُ بدمعي، وأسمعت الليل أناشيدَ شوقي. غدوت يتيمًا هنا، تقرع وحشة الليل صدري: ما عساي أحمل عنك من خبر؟ سأقول لهم إنك احتويت كربلاء كلّها، وإن اللهَ قضى لك حاجةَ الركعتين. سأقول لهم إن الزهراء حَبَتْكَ وقرّبتك.
أمضيتُ ما تبقى لي من مدة في المعسكر مكسور الجناح، يتيمًا تحنّ لحالي نائحات البراري. ويوم عدتُ من سفري، عدت متأبطًا خيبتي وحقيبة مجروحة الخاصرة.
خذوا يا أهله، هذا كل ما تبقى عندي. وعند زينب بقية الحكاية... تمت