لم أكن أعلم أنّها بسمتك الأخيرة في وجهي، أو أنه يوم وداعيّ بامتياز، فقد جُلنا بين جبال البقاع صباحًا ووصلنا إلى الجنوب حيث كنت تعمل، بين الدّحنون وطيب اللّوز وخفّة الزيتون. هناك يا علي* حيث رسمت أولى مخططاتك للشهادة وتكلّمنا لساعات قرب قبر الشهيد علي منيف أشمر ( قصته الرقيقة مع جميلة)، وكم هو جميل أجر الشهداء ومكانتهم عند ربّهم أنهم حين يختارون من يحبون ينالون مرادهم في الجنّة. وكم من جميلة كانت لتقف بين يديك قبل شهادتك.
يومها نزلنا في سجد أحببت أن نتصوّر سويًا مع صديقتنا زهرة وأختي فاطمة بين الشجر - وللمصادفة أنك اخترت أن تتصوّر وحدك قرب لافتة كتب عليها "لك الخلد ولنا الصبر والسلوان". ربّي لما تركت لي هذه الصورة الواضحة من دون أن أضع نفسي للحظة مكان من يحتاج الصبر والسلوان- ربّما لأن الشجر أصدق من يمثلك في الدنيا هكذا شامخة، أصلها ثابت فرعها في السماء. تفيء علينا بظل الله، بصمت وتواضع، من شمس دنيانا الحارقة، وكم نحن مكشوفون لحريقها بعدك . أنت يا شجرة الصدق، من استندنا بجذعه صبحًا و مساءً. من كان لنا في الدنيا قبل الآخرة "عبّاسًا" يمد لنا يد العون عند كل ضيقة. أتذكر جيدًا، ومنذ دخولي إلى الجامعة، كنت تحرص أن ترافقني صباحًا إلى ساعات التدريب وتحيطني بالدعاء و تضع الصدقة يوم امتحاني لتذهب عن قلبي الخوف. و في يوم تخرجي كنت أنت من رافقني وانتظرني منذ السادسة صباحًا ليرافقني بدعائه المستمر. كنت تطلب مني إعادة الصدقة إليك لأني " شطورة"، عهداً أني سأوفيها صلاةً عن روحك الطاهرة.
علي، أنا الآن تخرجت من الجامعة ولكني دخلت معركة الحياة من دونك، من دون أخ رافقني سبع سنوات دون ملل، ومن دون تذمر من طلباتي الدائمة. علي لم يكن معي فقط هكذا أخًا وصديقًا، بل كان لصداقتنا أحباء كثر، وكان له من المواقف نفسها وأكثر معهم، حتى كانوا ينادونه "بابا علي".
بابا، الآن نحن يتاماك، يتامى ضحكتك الخفيفة على قلوبنا. ما زلت إلى الآن أنتظر أن تقرع باب بيتنا لتسهر معنا و تحدثنا بطيبتك عن حياتك التي تمحورت حول المقاومة. عن الطرائف التي كانت تحدث معك أيام عملك، تراك ما اشتقت أن نضحك سوياً؟
هذا هو الغياب
منذ سنة تقريباً، و في ذكرى يوم الجريح، وصلت للشهيد علي دعوة للحضور باعتباره جريحًا في معركة القصير. يروي علي ما حصل:
"كنت قاعد حد جرحى شي بلا إيد شي بلا إجر واللي مشلول، انا إصابتي بأصبع إجري. ولك! وين بدي روح بحالي اذا حدا سألني وين منصابظ صرت وطي وجي كل ما يمرق حدا، شي بيخجل صحيح".
علي، ليتك تعلم حجم الفخر الذي يسكننا لأنك شهيدنا، اتمنى أن أقف حيث وقفت قبل سنة، و أقول من كان هنا يا سادة خجلًا بجرحه الصغير أصبح شهيدًا.
علي، نحن الآن من نخجل أمام تضحياتك، أمام روحك الطاهرة، ولا باب لتعويض خجلنا سوى الدعاء، أن نكون على خطاك. نسأل الله أن يطيب جرحك فينا، بظهورك مع الامام الحجة"عج".
علي، عُد وتذمّر من أحاديثا السياسية التي ما كانت تعنيك، وموسيقانا الكلاسيكية التي تربكك، فقد أحببت صالح الدرازي وكلامه عن أهل البيت. لا طالما كنت الأقرب إلى الله والأقل فلسفة بيننا. إلا أنك كنت تحضرنا لفلسفة الحياة الأخرى من دون أن نشعر.
يا صديقي الآوفى، ويا "سندي" كما كنت أناديك، ثلاثة شهور لا تكفي لأوفيك حققك ببعض كلمات هشة أمام أوجاعنا. ولكني، وكما تلقيّت خبر استشهادك، أخيّر نفسي بين الكفر والإيمان، واخترت جرح إيمانك في قلبي، سأختارك مرّة أخرى. سأكون كما عاهدتك منذ سبع سنوات، الصادقة المؤمنة الصابرة. أعلم أن الله ابتلاني بك، واختارك أن تكون وليًّا وحجة علينا في الدنيا، ولهذا البلاء ثناء جميل لست أهلًا له. أنت من علّمني معنى عبارة "ما رأيت الا جميلًا". أنت أول من اختبرتها بك لحظة غيابك.
"محسن" كما اخترت أن تكون، وكنت خير محسن، أردت أن أزف نبأ استشهادك لصديقنا، كما تحبّ بفخر وعزّة، مع أن نار الموت اجتاحت مهجتي. لم أكن بين الذين مشوا خلف تشييعك، لقد كنت أمام قبرك أقرأ القرآن كما تمنيت، وأرش تربتك بماء الحسين من فديت. أرضيت يا علي؟ خذ حتى ترضى.
يتاماك نحن يا علي، منّ علينا بنظرة منك في عليائك. نعلم أن الزهراء(ع) أمّك وحبيبة قلبك وزينب(ع) سيدة الصبر أحق بك منّا. ولكن يا حنون، ألا ينفطر قلبك حين ترى دموعنا لا تجف، وقلوبنا تحيا على ذكراك.
سلام الله عليك، وعلى أرض ابتلّت بدمائك الطاهرة، وعلى شفاه نطقت بقول الحق دائمًا، وبقول يا زهراء عند الشدائد. سلام الله عليك وعلى عينيك وعلى رأسك المصاب الذي رفعت به رؤوسنا.
أشهد لنا عند مولاتنا أننا كنا خير صحبة لك، وبارك لنا مسيرنا نحوك. نحن عاهدناك أن قلوبنا لن تهدأ دون لقياك. سنعيش عمرًا دون بسمتك يا علي ...
هي الغربة...
*الشهيد علي القدور – مواليد حارة حريك 1989 –استشهد بتاريخ 28-3-2014