... فقلت :
-يبدو أنها قد أغارت على إقليم التفاح.
-لعلها كذلك. الصهاينة الخبثاء إذا رأوا أحدًا من الإخوة يرسلون الطائرات وتصل بدقائق وتلقي بالصواريخ الضخمة.
-إننا نرجوا النصر من الله.
سألني أبو صالح : هل تتصور أن إسرائيل سوف تنسحب من الجنوب؟ لا أدري. إنني لا أرى ذلك ممكنًا في الوقت القريب.
-إنها حرب الصبر والنفس الطويل. قال مطرقًا.
ونحن نتحادث رأينا سيارة حمراء اللون توقفت قريبًا من المنزل، أخذ أبو صالح المنظار على عجل، وراح يراقبها.
نزل منها شاب عشريني وفتاة، سارا باتجاه بيت العميل.
فقلت :
-لعلهما من أقربائه.
-دعنا نتأكد.
ولما غابا بين الأشجار المحيطة بالمنزل، ظننا أنهما قد دخلا إليه.
-ربما هما زائران.
-لم يدخلا المنزل، لقد أكملا السير وولجا منزلًا يقع إلى الخلف.
كان المغيب قد حط أوزاره على التلال والوديان الهامدة، وغطت القرية المقابلة في سكون عميق. خلت الشوارع من المارة والسيارات، وأنارت الأضواء المتعبة تحت وطأة الضباب الخريفي شوارعها الضيقة. وقبض الظلام على أنسام الريح المنسلة بين أشجار البلوط، التي راحت تشرب رطوبة المساء. ولف الصمت إزاره الشفيف على تلتنا. وشرع "زيز" الليل في أغنيته المعتادة. أما الجبال النائية، فقد جعلها الظلام والضباب الليلي الشفيف، تبدو كأنها حلم خيالي.
أدينا صلاة المغرب والعشاء، وكعادتي كل مساء، استلقيت على ظهري بين الأعشاب والأشواك، ورحت أتأمل النجوم التي تراءت كالهجس وانسياب سحب أيلول البطيئة، مستسلمًا لتنهدات الحفيف. تناولت بعض الشوكولاتة والفستق. كان قد خيم الظلام ولم نعد نرى ما حولنا، إلا الشجيرات القريبة، ورؤوس تلك التي إلى الأسفل منا، وقد التمعت بعض أوراقها تحت نور القرية. حاولت الإغفاء إلا أن الخواطر القلقة ما فتئت تراودني. ربما لن نعود من هذه الدورية.كلا، إننا نأخذ احتياطاتنا بشكل جيد. سنعود ومعنا معلومات قيمة ومفيدة. ثم سرى بي الخيال بعيدًا بين المخاوف والأوهام، هل سيستسلم العرب ويتفقون مع عدوهم على إحباط مقاومة الشعب؟ ويأتي اليهود إلى بلادنا يمرحون ويسرحون ويسوحون ويتسوقون؟ لن نتوقف عن القتال. سنصطادهم في الأزقة والشوارع، وسننتقم لحيدر وماجد وفؤاد وزهير وكل الشهداء.مع تقلب أفكاري غفوت، إلا أن الأنسام الباردة في تلك الليلة كانت توقظني بين حين وآخر، فأرنو عبثًا إلى القرية الساهمة علني أرى ذلك السبعيني يتمطى على الطريق أو يطل من شرفة منزله، ثم لا ألبث أن أعود إلى النوم.
أقبل الصباح بضبابه العهيد، وشيئًا فشيئًا جعلت بيوت القرية تتراءى من ثنايا الضباب الذي أخذ يذوب في الأنسام. قمنا للصلاة التي جعلها الهدوء الموصول متدفقة ناضحة بالخشوع. بعد الفراغ عدت إلى الرصد ووضعت البندقية بجانبي. كان المنظار نديًا باردًا. مسحت زجاجاته بكمي، وطفقت أدير الطرف على الطريق الممتد بين الموقع ومنزل العميل. كان سطوع الشمس يضيء نوافذ القرية، وكان بعض المارة يتجولون بين المنازل، وبضع أغنام تدلف بين الجلول الزراعية نحو الوادي والراعي يرقبها. أمام البيوت كان البعض يعملون في الأرض حرثًا، وبين كروم الزيتون أبصرت بعضهم يستعد لموسم القطاف. تناولنا طعام الفطور، وجعلنا نقتسم ساعات الرصد. كانت خيوط الغيم قد تلاشت عند الظهيرة، وشمس أيلول تلهب النسائم فتبعثها حَرّةً متعبة تلفح الوجوه. وما زاد من الحرارة، أن ماء القُرب التي أتينا بها من النهر بدأ ينفد، وبقيت قربة صغيرة يملأ الماء نصفها.
قال أبو صالح :
-قلل من شرب الماء ليكفينا إلى الغد.
-إنني لا أشرب كثيرًا على أي حال.
- الحرارة مرتفعة...
قلت ممازحًا :
-إننا في كربلاء!
-نحن نتعب كثيرًا.
-نعم لكن بداية المقاومة كانت أصعب، والتجهيزات البسيطة التي بين أيدينا الآن لم تكن متوفرة. نحن الآن نملك حقائب ظهرية. لقد أخبرني أبو حسين بأنهم كانوا يحملون قذائف الهاون على مناكبهم ويصعدون بها جبل صافي.
-.. شعبنا تعب كثيرًا في هذه الحرب.
-لقد اعتدنا ذلك.
- إننا نعيش كما كان يعيش أهلنا منذ مئات السنين، كانوا يعيشون في بيوت صغيرة وسط الجبال يزرعون بساتينهم ويرعون أغنامهم ويشربون مياه الينابيع والأنهار.
-كانت حياتهم بسيطة. معيشتهم كانت عذبة هادئة لا يعكرها ضجيج المدن الزائفة.
مكثنا ننتظر الهدف، المنظار مسمر على أعيننا طوال النهار وهنة من المساء. كنا نتبادل الرصد في ما بيننا بين ساعة وأخرى.
سألته :
-هل رأيت شيئًا ؟
-إلى الآن لم يتحرك ساكن في ذلك المنزل.
-عجبًا!
-هوِّن عليك قد يأتي في أية لحظة... يتبع حلقة 7 و8 (الأخيرة)