خط إبراهيم اولى صفحات العز عندما كان في السادسة عشر من عمره، عندما عاد من السفر مع أهله إلى بلدته الحدودية إثر احتلال صدام حسين للكويت، فأهله من المهاجرين القدامى إلى هذا البلد. لم يكن إبراهيم قد سمع في حينها صوت القصف ولم يشهد همجية العدو الصهيوني، إلا عبر قنوات التلفزة . فإبن السادسة عشر قضى طفولته، وجزءًا من شبابه في المهجر، حيث رغد العيش والأمن والأمان في ذلك الزمن. وصل إبراهيم على صوت القذائف والرصاص. ماذا يجري؟ ماذا يحصل؟ سأل إبراهيم أباه وجيرانه الذين كانوا بانتظارهم... لحظات وجاء رد صاروخي أعمى بصر إبراهيم والحاضرين للحظات، لتنجلي الغبرة عن ارتقاء شهيد وأكثر من عشرة جرحى. أجل إنه العدو الصهيوني . كان إبراهيم قد تعلم مبادئ الإسعاف الأولي في الكشاف، وتطوع أكثر من مرة في أعمال إغاثة، ومن دون أي تردد وبقلب هادئ، بدأ يمارس ما كان قد تعلمه على المجسمات البلاستيكية، ولكن... هذه المرة كان الجرحى أهله وجيرانه. عصر ذلك اليوم أخذ إبراهيم القرار وحزم أمره: أجل، لما لا أكون مسعفًا في خدمة أهلي وناسي. فعلًا بدأ إبراهيم بدراسة مهنة التمريض. واكب ذلك بالتطوع في الدفاع المدني، وبذلك اكتسب خبرة كبيرة في المجال العلمي والعملي، وبدأت مع إبراهيم قصة عشق أخرى، فهو لطالما حلم بأن يكون ناصرًا للمجاهدين، ولكن كيف السبيل؟ ...
توجه إبراهيم – من دون تردد - إلى المعنيين في المقاومة حينها واضعًا نفسه في تصرف القيادة. كانت العمليات العسكرية ضد مواقع العدو وجيش العملاء في أوجها مطلع التسعينيات. استحسن المجاهدون هذه الفكرة. بعد أيام عدة جاء الرد بالموافقة. لم تسع قلب ابراهيم الفرحة، وفي الوقت عينه حافظ على سرية هذا العمل، فهو ممرض بنظر كل من يحيطون به وحسب!
خضع إبراهيم لتدريبات عسكرية خاصة بالمسعفين الحربيين، وهو ابن الجامعة ويداه الناعمتان لم تألفا الأشواك وقساوة العسكر. ولطالما كان يطلب من شقيقته إزالة الأشواك من ظهره. مضت أسابيع عدة على انتهائه من فترة التدريب، وهو ينتظر على أحر من الجمر أوامر القيادة للمشاركة في الأعمال الجهادية. تسلّم جهازًا يدويًا من المقاومة ليبقى على السمع. كان نداؤه "سليم". كم انتظر إبراهيم هذا النداء. كانت ليلة من ليالي كانون العاصفة. سليم، سليم... أدهم. صدح صوت الجهاز. ارتعدت فرائسه. رد: سمع، سمع. شوف عندك: حسان 3. وهذه شيفرة ليلتحق بمكان متفق عليه مسبقًا.
جمع القائد المجاهدين، وبينهم إبراهيم الذي تفاجأ بعدد من أهل بلدته في صفوفهم أيضًا، منهم المهندس و الطبيب و المزارع والعامل، فرح لأنه كان بأن المقاومة هي هذه: خلاصة كل المجتمع. سلم القائد على الجميع وقال: "إثر إمعان العدو في الاعتداء على أهلنا، تقرر أن يتم تكثيف العمليات النوعية ضد مواقعه، وهذا الأمر يلزمه جهوزية عالية من طرفنا، وإن شاء الله ستكون باكورة أعمالنا مهاجمة مواقع عدة في وقت واحد". ثم أسهب في شرح دور كل مجاهد من الحاضرين. حُددت ساعة الصفر للانطلاق، في الليلة المقبلة. طُلب من إبراهيم العمل في مجال تخصصه، الاسعاف الحربي. كانت ليلة ويوم يفصلان إبراهيم عن ساحة الوغى ومصنع الرجال، قضاهما مع إخوة الجهاد بين مصلٍّ وتالٍ للقران ومتضرع بالدعاء . بدأت القوات بالتموضع، كل في مكانه: إبراهيم مع مجموعة الهجوم الأولى التي بدأت التحرك تسللًا للوصول إلى أقرب نقطة ممكنة من الموقع المعادي. لم يفصلهم عن الموقع سوى بضعة أمتار. انتظروا حتى ساعات الفجر الأولى، وبنداء "يا صاحب الأمر" بدأ الهجوم، والمجاهدون كالأسود مزمجرين بنداءات ألفتها القلوب والعقول. كانت معركة سهلة، فالعدو جبان يقاتل من البعيد خلف جدره، فتحقق النصر المؤزر، وتم تدمير الموقع، فيما حاميته بين قتيل وجريح.
حان موعد الانسحاب في أودية وعرة. بدأ العدو يصب حمم غضبه قصفًا وغارات بطيرانه الحربي، لعله بذلك يريح جنوده. سقطت إحدى القذائف على مقربة من أحد المجاهدين، فأُصيب إصابة بالغة. ركض إليه إبراهيم غير آبه بقصف، وبدأ يضمد جراحه النازفة. أُصيب مجاهد آخر إصابة خطيرة أعاقت حركته. ركض ابراهيم باتجاهه وعمل على معالجة جراحه وتخفيف آلامه. تمنى عليه الجريح تركه والاحتماء، إلا أن إبراهيم عاجله: إما نعود معًا أو نستشهد معًا. بعد ليلة قاسية تمكن إبراهيم ورفاقه من سحب الجرحى والانسحاب.
تتالت المهام على إبراهيم حتى استحق لقبًا عظيمًا حمله آخرون مثله، ذوو حظ عظيم مثله: "طبيب المجاهدين". مع تقدم السنين، وهو يعمل بلا كلل، تارة في الميدان وأخرى ينقل الخبرة والتجارب إلى المسعفين الجدد، ويعتريه الحزن وهو يودع شهيدًا تلو شهيد، إلى أن حلم بصديقه يبشره بمقام رفيع سيناله بالشهادة. كان إبراهيم في إجازة وسمع عن عمل عسكري يُحضر له، فأصر على القيادة بالمشاركة. قطع إجازته. سألته صغيرته عن سبب مغادرته، فأسر لها: بابا أنا رايح للشهادة.
بدأ الهجوم وحقق المجاهدون إنجازات كبيرة يومها، ولكن هيهات، فقد وُعد صاحبنا بالشهادة، فبينما كان إبراهيم يضمد الجراح، وإذ بطلقة تخترق قلبه فارتقى شهيدًا. أما صغيرته لم يطل بها الأمد يتيمة حتى لحقت بوالدها شهيدة، إثر تعرضها لإصابة نتيجة القصف الصهيوني على قرية إبراهيم.