رأيتُ في عينينه وعدًا، في بسمته حلمًا...
وجه الاستشهادي "علي أشمر" وهو يقرأ وصيّته بطمأنينة وسلام، هو أول ما عرفته عن المقاومة في سنيِّ طفولتي الأولى.
نور ابتسامته جعلني أسأل أمي: "كيف ولماذا يقدم على الموت شاب جميل مثل هذا الشاب!؟" فأجابتني:" إنّها الشهادة يا صغيرتي، أي الموت بهدف تحرير أرضنا".
ذاك الشّاب، الذي لم يسأل إلا عن الصلاة وهو ذاهب الى تفجير نفسه في مواكب الإسرائيليين، اختصر كل مفهوم الدفاع عن الأرض والعرض.
كيف يبيع شاب مثله زخارف الدنيا، ويذهب طوعًا إلى موتٍ حتميّ؟ لماذا؟!
من أجل ال"تحرير"! هذه الكلمة التي لا أعرف ماذا تعني بعد، لأنني لا أعيش إلا في أضدادها!
لكن كل ما أعرفه أنّ الإسرائيلي يجب أن يرحل يومًا ما، وأن استمرار الاحتلال ليس قدرًا، وإلا ما جازف قمر الإستشهاديين بحياته!
يجب أن يرحل العدو ليبزغ فجر نهارٍ لا أبصر فيه ملالةً إسرائيليةً تعكّر سلام طفولتي، ولا أرى إسرائيليًا يتجول في قريتي آمناً. وعندها، لن أضظّر إلى البكاء و الاختباء من مواكب العدو التي تمر من أمامي.
عرفت في سنّ السابعة بأنّ قريتي "عيتا الشعب" تبعد عن بيروت ست ساعات انتظارٍ على الحواجز في "الحمرا" و"بيت ياحون". يوشّح البُعدَ الكثيرُ من قطرات الذّل وكلمات الإهانة من العملاء والمفتّشين، وغالبًا ما تكون العاصمة أبعد بكثير بسبب إغلاق الحواجز في وجوههنا وإجبارنا على العودة من حيث أتينا.
وهناك، وذات خطواتٍ تنقلنا من حاجز العملاء إلى حاجز الجيش اللبناني، ربّتت أمي على كتفي قائلةً: "في يومٍ ما ستمرين من هنا دونما تفتيش، وستصلين بيروت في ساعتين".
متى يُزاحوا عن صدورنا؟!
لم يتحمّل عقلي الصغير خبرًا كهذا، أي إنني في يوم لا أعلم متى يأتي سألتزم بمواعيد طبيبي في صيدا، وسأغادر قريتي عيتا من دون المرور ببيت عميلٍ يأخذ مني ثمن تصريحٍ، والكثير من التفاصيل عن سبب مغادرتي القرية، وحتى وإن كان للعلاج.
سألتها: "ومتى هذا اليوم يا أمي؟" فأجابت بحسرة: "آمل أن تشهديه أنت، وإن لم تفعلي فسوف يشهده أبناؤك، لا بد أن نتحرّر يومًا!".
أعرف أنّ قريتي محاصرة، وأنّ معظم شبابها في معتقل الخيام لأنّهم، بشكل أو بآخر، يقاومون، أو ينتمون إلى "حزب الله المخرّب" مثلما يقول العملاء وتلفزيون العدو.
كل ما أبصرته من حياةٍ واسعةٍ، وأنا طفلةٌ، هي مشاهدُ فُقدت فيها حرمات النساء وأعراضهن، عندما قِيدت أمهات أصدقائي إلى المعتقل، عندها بكت الأطفال أمام عيون لا ترحم، وفقدت الأعياد بهجتها لتضحي الدموع سيدة الموقف.
وكلّما حلمت بالتحرير، سمعت عبارات يزرعها العملاء بين الناس:"مين مفكرين حالهم هالشباب، من كل عقلهم بدن يهزموا إسرائيل؟!"، فألوذ بصورة علي أشمر، وصلاح غندور، وكل الشهداء الذين أراهم عبر تلفزيون المنار، مرددة في داخلي:" أنتم أيها الشهداء جعلتم أمي تعدني بـ"التحرير"! فمتى يكون الصبح ويتحقق الوعد؟".
في عيتا الشعب يوم التحرير
في الثالث والعشرين من أيار ، عندما كنت في العاشرة، أقف قرب أمي على شارع يعج بالناس والدموع، رأيت أعلامًا لحزب الله، أعرف أن حملها جريمة يعاقب عليها العملاء. فوجئت بما أرى، نظرت حولي واذا بأمي تبكي دموعًا لا تشبه دموعها في بيت عوائل الأسرى، ولا تشبه تلك التي تذرفها عند شعورها بالذل في مراكز التفتيش.
- "إذًا، ماذا يحصل يا أمي؟ لماذا تبكين؟".
وجوه عيتاوية
رأيت سيارات تحمل أعلام لبنان وحزب الله وحركة أمل تتقدم وتجوب شوارع القرية، وقد علت أصوات أبواقها وهتافات ركابها، "ماذا تعني هذه الأعلام؟ كيف تخطّت حواجز التفتيش؟! هل رحل الإسرائيليون يا أمي؟!".
الجواب كان واضحًا ولا ينمحي من الذاكرة: صور مقاومين يلبسون الجعب ويحيون الناس. صور عائدين بعد تهجير قسري مرير. صور أناشيد الوطن وحزب الله التي ضجت بها القرية، لقد كان التحرير مفاجأةً... بل قل حلمًا بعيدًا جدًا تحقق سريعًا جداً!
يا صورة علي أشمر التي لا تفارقني، لقد وفيتِ بوعدك وتحررنا، وأسرع بكثير من وعد أمي.