أذكر انها كانت ليلة من ليالي الربيع بطقسه العليل، في إحدى القرى العاملية، سهرة عامرة مع الخلّان تخللها مزاح مع أحدهم كان يتحضّر لخطبة فتاة من القرية، وكلما مازحه أحدنا احمرّ وجهه خجلًا، محاولًا تحويل الحديث عنه. كان عريسنا يعمل في اختصاص المدفعية، وكان متقنًا لهذا الاختصاص، ويحمل خلفية علمية كبيرة خولته ابتكار أساليب جديدة آلمت العدو، وكان المجاهدون يلجؤون إليه في المهمات الحساسة، والتي تتطلب رمايات دقيقة.
ساد هدوء تام يخرقه صوت غليان الشاي على نار هادئة، على الطريقة العاملية: طابقان، العلوي الصغير يسمى "كُوري"، والسفلي الكبير يسمى "كِتري"، ولات تسل عن السبب! رنّ الهاتف الداخلي. "عندنا عمل". قال الشاب الخجول. بعد أن غادره خجله، وبدت علامات الحزم والجد واضحة على وجهه وفي نبرة صوته. حسنًا حسنًا، هيا يا شباب، لنجهز أنفسنا. هناك مجموعة ستدخل إلى الشريط المحتل الليلة في مهمة استطلاعية، وعلينا أن نكون على جهوزية، حال اكتشفت وتعرضت لأي عمل معادٍ.
تم تقسيم الأدوار مع قلة العدد، لضمان الاستمرارية وعدم استنزاف جميع الإخوة، ولعل المهمة تطول. مرت الساعات ثقيلة، فمن يجلس على مربضه يعرف أن أمر الرماية يعني بأن المجاهدين انكشفوا في الدورية. ومع اقتراب خيوط الفجر، كانت النسمات تلاعب ورود الربيع، وصاحبنا يترقب، فمن هم بالداخل أعزاء يقتحمون لجة بحر من الأعداء والعملاء.
بحمد الله، مرت الليلة الأولى بسلام. لم يرض هذا المجاهد أن يتم تبديله، مع ساعات السهر الطويلة، فهو يعلم بأن سرعة الرماية ودقتها على مصادر نيران العدو، تساعد المجموعة على الانكفاء بأمان، وهو الأقدر على هذه المهمة.
كان قد حدد موعد عرسه بعد يومين. عليه إجراء بعض التحضيرات، وإن كانت متواضعة جدًا: من شراء بعض الملابس وحلوى العرس ودعوة الاقارب لمشاركته فرحته، ولكنه أوكل هذا كله إلى شقيقه، الذي أدى المهمة على أكمل وجه، لاسيما دعوة الأصدقاء والأقارب، على أن يحضر عريسنا إلى القرية يوم العرس في الصباح الباكر ويتم ما تبقى من مراسم عرسه.
كانت القيادة على تواصل دائم مع مجموعة الاستطلاع. إحدى نقاط الرصد تلحظ وجود تحركات لجيش العدو، الذي استنفر في مواقع عدة. طيرانه الاستطلاعي حركته مكثفة في أجواء المنطقة. ومواقعه تطلق بعض القذائف والرشقات بين الفينة والأخرى. هذا التصرف يشير إلى أنه ربما يكون قد لحظ حركة ما للمجاهدين.
عمار، عمار، حمزة. نداء من القيادة للمدفعية. وبشيفرة خاصة فهم صاحبنا بأن المطلوب رفع الجهوزية والبقاء على أهبة الاستعداد للرماية المدفعية. وبالفعل، ما هي إلا دقائق حتى جاء أمر القيادة بالرماية على مرابض مدفعية العدو، التي بدأت تقصف، بشكل هستيري، الوادي الذي كانت تعبره مجموعة الاستطلاع.
بنداء "يا علي"، بدأ صاحبنا بالرماية المدفعية، محققًا أهدافًا دقيقة، الأمر الذي شلّ حركة المواقع القاصفة، فخفف الضغط عن المجاهدين، ثم مكنهم من الانسحاب. رمى ذاك المجاهد يومها أكثر من عشرين قذيفة، مع علمه بالخطر اللاحق به، وإمكانية انكشاف موقعه للعدو، ومع ذلك استمر في القصف حتى جاد بنفسه، في سبيل إنقاذ رفاقه، وإنقاذ المعلومات المهمة التي حصلوا عليها من هذا العمل الاستطلاعي. فأثناء رمايته القذيفة الأخيرة، ألهبت حمم إحدى طائرات العدو المكان بعدد من الصواريخ. ارتقى العريس شهيدًا، فجر اليوم الذي حدّده موعدًا لزفافه!
بعد ساعات تم إبلاغ العائلة بالخبر. حُدِّد موعد التشييع عند الرابعة عصرًا، في نفس التوقيت الذي دعا المجاهد أصدقاءه للاحتفال معه عريسًا. أثناء التشييع ورد اتصال إلى هاتف شقيق العريس. كان صديقه يسأله عن مكانه، ليرد الشقيق: في عرس شقيقي.