حقيبة مجروحة الخاصرة(1) - يسرى يوسف حايك
الإسم : حاتم إبراهيم حسين ( أبو علي )
الولادة : النفاخية – قضاء صور 25/05/1959
الوضع العائلي : متزوج وله سبعة أولاد. والد الشهيد علي حاتم حسين.
التحق بصفوف المقاومة الإسلامية في العام 1991.
حائز على تنويه الأمين العام لحزب الله مرات عدة.
مختار بلدة النفاخية.
الاستشهاد: القصير في السابع عشر من أيار 2013.
قالوا : لن تُسبى ... ومذ ذاك قلما اكتحلت عيناه بغفوة، أو راودها وسنٌ. يمضي الليلَ - كعادتِهِ - خلوةً بمعشوقِهِ. والنهارُ يُنسيهِ ما أشعلَ الدهرُ من سوادِ رأسهِ، وما مضى من سنيِّ عمرِه.
أبو علي حاتم في رأس قائمة الراحلين إلى زينب (ع). يودّع – منتظرًا- الشهيدَ تلو الشهيد؛ قبضة ٌمرتفعةٌ، وحنجرةٌ تصدحُ بالتلبية صدقًا وشوقًا. لعلي جشي وجواد الزين أودع الأمنيات وأرسلها إلى أعالي السماء تلهفًا للقاء.
ثم أراه للحظةٍ تختنقُ التلبيةُ في صدرِهِ. استدارَ نحوي ودمعته المحتبسة قد أحرقتْ حنجرَتَه:
- وا خجلتي من نداءٍ أُطلِقُه بلساني، ولم تقدّم عليه يداي برهانًا. أمشي في مواكب الشهادة ولم أسعَ إليها.
أبتسم وروحي تشاطر روحه الغصّةَ عينَها:
- لا تحزنْ، فكأنّي وإيّاك قريبًا نُسمعُ صيحاتِنا قبةَ المقامِ.
كلّه الحزن يحكي: أم كيف أغادر لزيارة سيد الشهداء (ع)، وأنا حين استغاثَتني عزيزته زينب ما أغثتها، وما دفعت عنها ؟!
عبثًا أحاول تهدئته. وكيف أهدّئه وبركانُ الثورةِ مستعرٌ في صدرَينا، وأنّاتُ زينبَ تتناهى إلى مسامعِ أفئدتِنا، وقد مضى الجميع إليها إلّا أنا وصديق لي تعتّق في ذاك الدربِ عمرُه، وكأنّنا عنها من المُبعدين، فذاك الوعدُ الصادقُ نزفت على أيّامِه الثلاثة والثلاثين قطراتٌ من دمِه، وشهِدَتْ حقول عامل سطوة اشتياقِه.
دموعٌ كانت تموجُ في حدقتيه، تنبئني بأنّ الرجل إذا لم يغادر للحرب تغادره روحه ولهًا. لم يوفر صاحب كلمة في شأن الحرب إلا وتوسّط لديه. وكأن الفرصة أفلتت من أيدينا؛ فلا خبرٌ جاء، ولا ردٌّ عاد.
شهران مرّا، بل أكثر، ووسائدنا جمر الحنين، وكلما راجعنا من بيده الشأن، كنا كمن يستعطف من الجمر عذبًا زلالًا. وكنت طيلة تلك المدة ألاقيه وأستزيد منه عزمًا، وأغترف من عينيه أبوة وحبًا.
هو أبي الذي شاركته همومي الخاصة، وبثني بعض آمال وحكايات عن مقاومته الأولى، عن حلم تَشاركه وزوجته، عن الأبناء ومن فارق منهم؛ عن علي بكره وشهيده، عن ريما حفيدته المدللة ... هو أبي الذي خشيت أن تطلبه زينب (ع) دوني.
ظهر الثلاثاء السابع من أيار 2013، رنَّ هاتفي الذي كنت ألازمه انتظارًا لإشارة. إنه الحاج أبو علي.
- أهلًا أهلًا...
- إيدك عحلاوة البشارة. قال وأنغامُ صوتِه تتراقصُ فرحًا. جاء الإذن. حضّر نفسك غدًا صباحًا سننطلق.
لم يكن سهلًا إخبار الأحبة بأن ساعة السفر قد حانت. زوجة وأبناء ملأوا حقيبة السفر دموعًا وأمنيات. قبلوه وضموه، ولكن ما أثنوه عن ما أمضى العمر يرتقبه.
- ائتوني بريما.
مرّر أصابعه بين خصلات شعرها الأسود الناعم. قبّل يديها الصغيرتين، واحتضنها حتى غفت بين ذراعيه، وهي تحلم بأنه سيعود غدًا. وبين يديه باقات من ياسمين مبارك، وهدايا من صغيرات الطفوف.
أطبقت جفون الليل، وغط الكون في إغفاءة إلا العيون التي أنذرها حبيبها بسفر لم تغفُ. ظلت شاخصة إلى أبعد نجمة تُرسِل إلى الزهراء (ع) نجوى: ذاك حبيبنا خُذيه إليك خادمًا، ثم ردّيه إلينا سالمًا...
أمّا هو فحليفُ سجّادتِه وصلاةُ ليلِه.ِ ركعاتٌ فوقَ الإحدى عشرة. يومَها فقط أفضى بالسرِّ إلى رفيقةِ دربِه. أجلسَها قربه يوصيها. بكلِّ ما خالجه من شوقٍ يُفضي إليها، وبسرِّ "الركعتين" يُنبئها : هما ركعتان هديتي لمولاي صاحب الزمان (عج)، وركعتان لحاجة لي عند بارئي: شهادةٌ مطهّرةٌ أواسي بها الزهراء (ع) فلا قبرَ لي يُعرفُ، ولا بقيةَ جسدٍ تزارُ ...!
بلّلت شوقَه بدمعِها حتّى تنفّسَ صبحُ الأربعاء، وروحُها مع انسلاخِ النهارِ من الليلِ كادتْ تنسلخ.
قهوةٌ برائحةِ عطرِهِ ارتشفتْها مرَّةً، وعيناها تقابل عينيه بدمع كان بصمت ينسكب، وعقرب الثواني يلسع روحها، وينسحق قلبها تحت مطرقته. حتى قُرع جرس السابعة ... ظلّت حبيباته وحيدات في دار حبيبهن ترتقبنه هو، أو من يزور عنه بخبر طيب ...
يتبع