مضت أيام الأسبوع مسرعةً، كنت فيها أتدبر في حال الشهداء الذي يمضون ولا يتركون خلفهم سوى ومضات من الفخر، وربما انتابني شيء من الشوق إلى لقياهم، لا أعلم أين، هنا أو هناك لا يهم، فالشوق إليهم يشدك فقط لتعرف أكثر وتتعمق أكثر في صناعة أرواحهم، لقد سلكوا طريقًا شقه الواحد منهم تلو الآخر، فغدا معبدًا وجميلًا. ثم إنك لو تأملت جيدًا في حياتك لن تجد أسمى وأجمل من الحديث معهم أو عنهم، بعد أن قطعوا كل امتحانات البذل والعطاء؛ لقد جعلوا الطريق إلى الخالق سهلًا، بل قصيرًا، وأحاطوه ببساتين ابتساماتهم، وتضحياتهم، وأناروه بإيثارهم، وعبدوه بالتزامهم بمبادئهم وقيمهم السامية. ستتمنى لو كنت رفيقهم في هذا الدرب، سواء فزت بالشهادة أم برفقتهم، فليس بعد ذلك منال.
مضيت إلى الروضة في حي السلم، وعلى الموعد كنت، وحدي، برفقة دلو من الماء، أخذت أغرف منه ثم أنثر فوق ضريح القائد الميداني "الحاج حيدر" بضع قطرات، وأخذت الدقائق تقترب من وصول رفيق دربه الذي وعدني بالحديث عنه.
وما إن أنهيت تلاوتي لبعض الآيات القرآنية حتى لاح أمامي ظل الرجل الصديق. نظرت إليه وهو يقترب وبيده دفتر مزركش بقماش ملون مرصع بالورود المجففة. تبادلنا السلام والابتسام. وأعطيته الوقت ليقرأ الفاتحة لصاحب الضريح، ثم جلسنا على حافة نتجاذب أطراف الاطمئنان والتحايا.
شرع الصديق بالحديث. أمسك الدفتر بيد وفتحه باليد الأخرى قائلًا: لقد دونت هنا بعض المحطات التي تعيش في ذاكرتي وسأتلوها عليك، علها تفي بالغرض. ربما سمعت شيئًا من قبل عن هذا القائد أو قرأت، إلا أنني سأعرض أمامك ما خطته يميني على هذا الكراس.
وأخذ يقلب الصفحات، توقف عند واحدة وقد رسم عليها مروحية بقلم الرصاص، وقد هشمها بقلم آخر ثم أردف قائلًا: هذه الطائرة كانت تعتدي على أهلنا في دير كيفا، وقد أسقطها الشهيد برمية من رمياته بصاروخ متواضع. ثم أشار إلى أسفل الصفحة حيث علقت دبابة في التراب المتشقق القاسي، وقال: هذه الدبابة ابنة 1982، اصطادها الشهيد على طريق الحدث إبان الاجتياح الإسرائيلي فأرداها صريعة.
ثم عرج على صفحة أخرى، مملوءة بالمربعات والتقاطعات، ورسومات تدل على دشم وسواتر ترابية وأسلاك شائكة وطرق الوصول إليها والثغرات التي تحتويها، وشرح لي: هذه خارطة بسيطة من إنجازات الشهيد الذي كان يصر على الرصد والتخطيط بنفسه، ثم ينفذ أيضًا. ولم تكن لتعلم منه يومًا أنه يفعل كل ذلك، ولم يكن الشهيد يبدي أي ادعاء بأنه ينجز كل هذا. كان صيادًا ماهرًا للمحتلين، وآسرًا محترفًا لقلوبنا. ولا زلت أذكر يومًا كنا ذاهبين فيه معًا إلى تشييع الشهيد مصطفى كمال في جبل عامل، حينها كنت أقود سيارتي وهو يجلس في الخلف، فبدأ بإحراجي بأسئلته الفقهية، وكنت أنظر في المرآة خجلًا جدًا منه. كان يتقدمني ثقافة ومعرفة، وكذلك في حبه لي.
نظرت إلى الدفتر فإذا في الصفحة المقابلة صورة شريط كاسيت محطم على الأرض، ويد تمسك بالقرآن، فسألته عن هذا الإيحاء، فأجاب: تلك قصة بسيطة تذكرني بتمسك الشهيد بأحكام الإسلام وشرعه. كان الوقت شهر رمضان المبارك. كنا مجموعة من الشباب الذين أخذنا سيارة أجرة للصعود بها إلى دردغيا. كان علينا الوصول قبل المغيب. وفي الطريق وبعد أن قطعنا خلدة، وضع سائق التاكسي الشريط في المذياع، وأدار الشريط، فسمعنا جميعًا غناء علا ضجيجه، فطلب الحاج حيدر من السائق أن يطفئه إلا أن الأخير رفض وعلق: دعونا نتسلى! ما ان وصلنا إلى الدامور، قال الحاج حيدر: نحن لا نطيق سماع ذلك، ونريد الترجل. وفعلًا تركنا السائق، فعاد أدراجه، فيما بقينا وحدنا والوقت يداهمنا، وكان معنا سلاح وذخائر، فبدأنا رحلة الألف ميل. تعرض لنا شبان من طيف آخر، ولما عرفونا مقاومة تركونا. أخذنا نصعد من شاحنة إلى أخرى، حتى وصلنا إلى دردغيا بعد صلاة العشاء. كل هذا لأجل أن لا يسمح الشهيد لنفسه ولنا، بأن نلوث آذاننا بما يؤذيها.
بقيت ورقتان في الدفتر، الأولى عليها رسم لموقع، فأخبرني محدثي بأن هذا هو موقع القنطرة، وانطلق يروي قصته. العام 1991، رصدنا الطريق المؤدية إليه جيدًا، وقررنا أن نزرع العبوات عليه لاستهداف موكب. في مسيرنا لزرع العبوات صادفنا كمينًا فاضطررنا للاشتباك، وكان على أحدنا أن يبقى ويؤمن انسحاب الباقين، فكان الحاج حيدر هو ذلك الفداء. وقد تم أسر جثمانه وبقي حتى العام 1996م. أم الصفحة الثانية، فكان عليها يدان مفتوحتان، مكتوب على الأولى "شهيد"، وعلى الثانية "يا قدس إننا قادمون". فشرح لي صديق الشهيد بأن "هذا الرمز يذكرني بأهل الشهيد الذين جاؤوا إلينا عند تلقيهم نبأ شهادته، وقالوا لنا بأن الشهيد طوني أبي غانم* تربى عندكم، ومضى في سبيل الله وسيدفن في روضتكم".
*الشهيد طوني أبي غانم – مواليد الشويفات 1965م – استشهد قرب موقع القنطرة / جنوب لبنان بتاريخ 11-12-1991م