أبهى ما قدمته لنا "حرب الدفاع المقدس"، أننا علمنا بملائكة كانوا يسكنون بيننا. رجال من غير طينة البشر التي تعودنا. مقاتلون نعم، لكنهم عشاق منتظرون، يحبون الحياة، إلا إن حبهم للحق أشد وأكبر. هذه نظرة في وجوه بعض شهداء المقاومة الذين نحسب أن لكلّ منهم سرًّا مع الله.
حين تقرأ وصاياهم وتسمع عن فعالهم في الميدان، تعجب كيف كانوا يفكرون وكيف قرنوا القول بالفعل. فلا تملك إلا أن تسأل: أما زال لأمير المؤمنين عليّ (ع) بقيّة أصحاب؟ هل نجا هؤلاء من كربلاء والتحقوا بالحسين (ع) اليوم؟ من أين أتى خليل نصرالله؟ بماذا كان يفكر وسام شرف الدين؟ من هو مهدي ياغي؟ كيف أقدم محمد مهدي مرتضى؟... أسئلة تحار في إجاباتهان وكلما قرأت عنهم إزددت حيرة وشغفًا. في تلك الوصايا خلود نهج لا يستثيره الحقد، ولا تستفزه لغة المذهبية. لا تجد سوى مفردات الحق ضد الباطل، العزّة ضد الاستعباد، الحرية ضد الطغيان.
الشهيد مهدي ياغي
حين سجل مهدي وصيته التي أذهلت الجميع، إنما نطق بلسان جيل بأكمله. جيل وعى وتتلمذ على السيد حسن نصرالله، فاقتبس من لسانه العفوية والصدق، ومن منطقه الصراحة. خجولًا ضاحكًا كل الوقت، كأنه لا يعرف الموت، حتى قال عنه الشاعر الراحل أنسي الحاج: "وهل يموت فارس كهذا؟!".
قال، كما كل شباب المقاومة: نحن لا نقاتل طمعًا في الحور العين، زوجتي هي حوريتي. وأوصى الناس أن تسامحه وأن تدعي وتصلي عنه. استشهد مهدي في ليلة القدر، بمنطقة السيدة زينب (ع)، بعد مواجهة شرسة مع جماعة تكفيرية أثخن في صفوفهم، حتى أسلم الروح باسمًا.
مهدي الذي لم يكن يعرفه إلا صحبه، انتشرت وصيته على مواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات، كفوح العطر في الفضاء. فتندّر أحدهم: لقد ذهبت وصية مهدي بالنصف مليار دولار التي أنفقتها الولايات المتحدة الأميركية لتشويه صورة المقاومة، فقد رأى جميع اللبنانيون والعرب بعض حقيقتها وبعضًا من معدن شبابها. فسبحان من سخر ملاكًا مجاهدًا، يدرأ عنا وساوس شياطين الإعلام.
الشهيدان وسام شرف الدين وعلي وهبي
الشهيد وسام شرف الدين
في إجازته، قبيل آخر مهمة جهادية له، كانت لدى السيد وسام قناعة أنه ذاهب إلى الشهادة. أسرّ بذلك لزوجته وأهله، وأوصاهم كيف يكون تشييع جنازته. رتب أمر دفنه، واختار مقاطع مجلس العزاء، بعد أن حفر القبر بنفسه. طلب منهم أن يزينوا الضريح بالشجر والزهور. ثم طلب من سماحة الشيخ عبد الكريم عبيد أن يصلي عليه ويتولى لحدَه. وقبل أن ينطلق في رحلته الأخيرة، ذهب إلى المدرسة، ودع أطفاله ومضى...
ومن جملة ما أوصى به الشهيد وسام أن ينزلوا معه صورة رفيق جهاده، الشهيد علي وهبة، الذي سبقه إلى الشهادة في شهر رمضان، وأن يضعوها مقابل وجهه. ولا تكاد تُرى صورة للشهيد وسام في أرض المعارك، إلا ومعه الشهيد علي، باسمين تحسبهما في نزهة أو رحلة. يتسللان خلف خطوط العدو، يطلقان النار ثم يستترا ضاحكين. هما مصداق لحديث رسول الله (ص): "سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله". لم تفارقه الابتسامة عند الشهادة، فودّع الدنيا ضاحكًا مستبشرًا.
مقطع وصية الشهيد www.youtube.com/watch?v=Y8ssLOVs49w
الشهيد خليل نصرالله
كان خليل من الفرسان الذين لبوا نداء العقيلة زينب (ع)، لما اشتدت هجمات التكفيريين على مرقدها الشريف. قاتل دفاعًا عنها في أحلك الظروف وأصعبها. أمضى أغلب إجازاته في جوارها ولم يغادرها. حرص على أن يرفع راية العباس (ع) فوق المقام، وتمسّح بالقبة، ثم نادى من أعلاها: إنا قد جئنا لنصرتكِ، ولكِ اليوم ألف ألف عباس.
خليل المقاوم فعل ما لم يفعله أحد. وكأن الشهادة باتت يقينًا في وجدانه، فتأكد أنه مدركها. اختار أن يوصي بطريقة جديدة، فسجّل بصوته الشجيّ نعي نفسه. قال إنه قُتل من أجل السيدة زينب(ع)، تحت راية القائد أبي هادي، ولم يترك زينب (ع) وحيدة في غربتها الثانية. وما لم يقله، لكننا سمعناه عنه إنه شاب طلق هذه الدنيا وعبر نحو اليقين.
حين أزفت معركة القصير، لبس خليل البزة العسكرية لوالده المتقاعد من الجيش اللبناني، وكأنما أراد يقاتل الإرهاب دفاعًا عن الجيش والشعب والمقاومة. وقبل استشهاده بساعات، اتصل بوالديه واطمأن عليهما للمرة الأخيرة ومضى...
مقطع للشهيد خليل نصر الله youtube.com/watch?v=5h_fG38BGy0
الشهيد محمد مهدي مرتضى
كلنا، إذا ذكر ملك الموت أمامنا ارتعدت فرائصنا، وغيّرنا وجهة الحديث من فورنا، إلا محمد. هذا الشاب الحسيني المقاوم، قرر أن يخاطب ملك الموت الذي سيقبض روحه برسالة عذبة، فيها يقين الشهادة ومطلق التسليم لله. فما أعظم شباب المقاومة الإسلامية حين يذوبون في حب الإمام الحسين (ع) ونهجه.
قال محمد في مطلع رسالته لملك الموت: "أيها العزيز، قد صحبتك منذ زمن وأنا لم أخف منك يومًا، لأنه لا يخاف منك إلا من يموت حتف أنفه، أما من أيقن بالشهادة فيعرف أنه " كفى ببارقة السيف فوق رأسه فتنة".
لا يقول ذلك إلا من فاض قلبه إيمانًا وتسليمًا لمشيئة الله. نِعمَ العبودية واللهِ.
أضاف: " لذا، أُقسمُ عليك بمن إستأذنته قبل قبض روحه – رسولنا الأكرم ( ص) - أن تُشعرَني باقترابك، لا لأُوصي لشيءٍ من الدنيا، أو لأودع أحدًا، بل أَمْهِلني لأُسلّم على الحسين (ع)...
ثم يقول: "الآن طابَ لي الموتُ. إلهي وسيّدي ومولاي، لك الشّكرُ على ما تُنعمُ به علينا كلّ لحظة، وكلّما قلنا لك الشّكر استوجبَ علينا أن نقول لك الشّكر".
لله درّك يا شهيد، لمثلكم خلقت الجنان، وأعد الله فيها موفور النعم. قد ترحلون ولكن نهجكم راسخ، وسيركم لا تغادر صحف أجيالنا القادمة. مَن كان الحسين (ع) قدوته، لا يسقط صريعًا وإنما يرتقي نجمًا للعلاء، في الدنيا قبل الآخرة.
وصية الشهيد محمد مرتضى
http://www.saraer.org/essaydetails.php?eid=1380&cid=514
http://www.youtube.com/watch?v=QckrWAH-tJE