الأسير الفلسطيني ثابت مرداوي
تحرير: عبد الرحمن وليد
يشتد أزيز الرصاص والقصف. الشهداء يرتقون والجرحى يتوافدون إلى المستشفيات. المقاومون قرروا المواجهة رغم كل الظروف. صاروخ يسقط كل 8 ثوانٍ. غطاء ناري من السماء حتى تمرّ الدبابات. عبوات المقاومة بالمرصاد لكن عشرات منها لم تنفجر! كيف استطاع العدو أن يبطل مفعولها وهي مدفونة في الأرض، أو منصوبة على جوانب الشوارع والطرق؟
من الأخطاء التي وقعنا فيها -والحديث للأسير ثابت مرداوي- أن معظم العبوات كانت تعتمد في تفجيرها على أسلاك كهربائية ممدودة من العبوة حتى البطارية الكهربائية. القصف المتواصل والمكثف قطّع هذه الأسلاك فخسرنا العبوات التي كانت سلاحًا فعالًا.
مع ذلك نجحنا في تفجير بعض العبوات خلال الأيام الأولى من الاجتياح. لكن كلما كان يمر الوقت ويزداد القصف تتضاءل إمكانية التفجير، فضلًا على استخدام الاحتلال كاسحات الألغام.
مدخل المخيم الشرقي مثلًا، كانت الدبابات تتخذه محورًا أساسيًا للتقدم. تقدمت أول دبابة من المدخل واتجهت صوب حفرة كبيرة، حفرها الاحتلال نفسه عند دوار المستشفى الحكومي في الاجتياح السابق لتستقر فيها آلياته، وما إن استقرت الدبابة المذكورة حتى انفجرت عبوة أسفلها مباشرة وأصابت جميع من كان فيها.
توقعنا من الاجتياح السابق أنه لا بد أن تتمركز دبابة في هذه الحفرة، فزرعنا عبوتين كبيرتين فيها. ما لم نعلمه: هل كان الانفجار نتيجة تيار كهربائي فجر الصواعق أم ان وزن الدبابة ضغط على الصاعق فانفجر وفجر العبوة؟ هذا التساؤل نفسه تكرر مع انفجار بعض العبوات القليلة الأخرى. لو كان لدينا الإمكانات والوقت الكافي لتشغيل العبوات عن بعد، لكانت النتائج أفضل بكثير، بل ربما تغيرت نتيجة المعركة ولم تنته على الصورة التي انتهت إليها.
القصف لم يقطع أسلاك التفجير فحسب بل مزق أوصال الحارات والشوارع، وجعل من الأمتار القليلة التي تفصل بين كل زقاق وآخر كيلومترات طويلة، بل كان نقل كمية بسيطة من الذخيرة والعبوات أو انتقال مقاتل من زقاق إلى آخر يستغرق ساعات في بعض الأحيان.
القاتل الصامت
نسبة كبيرة من الشهداء استشهدت برصاص القناصة، منهم مثلًا الشهيد طه الزبيدي ابن سرايا القدس، والشهيد زهير النوباني ابن كتائب الأقصى الذي قضى وهو يحاول أن يقطع زقاقًا يفصل بين بيت وآخر، والأمثلة على ذلك تطول.
على ذلك، استطاع العدو بالقصف المكثف والقناصة أن يضرب خطوط الدفاع (العبوات) ويقطع الاتصالات بين المجموعات. كنا مثلًا في بيت ما ولا يفصل بيننا وبين مجموعة أخرى سوى بضعة أمتار، لكن أحدًا لا يدري ما يحدث عند الآخر من شدة القصف وضراوة الاشتباكات.
استثناء "الأف 16"
في معرض الحديث عن دور الطيران، كان يحلق في رأسنا سؤال: لماذا لم يستخدم العدو الطائرات المقاتلة (أف 16)، لقصف تجمعات المقاومين أثناء الاجتياح والمعارك التي شهدها المخيم؟
مع مراجعة قليلة، تبين أن أهداف العدو من البداية هي تصفية بعض الشخصيات المسؤولة عن العمل العسكرين بالإضافة إلى التخلص من قاعدة المقاومة والقضاء على البنية التحتية لها في المخيم. هذا ظهر من طبيعة الحصار الذي ضرب حول المخيم وكيفيته، ومن أعداد القناصة الذين أحكموا مراقبته.
خلال اشتداد المعارك وضراوتها، لاسيما في اليوم الثالث، كان واضحًا أن الإسرائيليين لا يريدون نجاة أي من عناصر المقاومة، فكان الطوق قريبًا من المقاومين حدّ الالتصاق والتلاحم، وبناء على هذا القرب لم يكن للعدو إمكانية لاستخدام طائرات "أف 16" بكثافة.
من جهة أخرى، لو أراد الاحتلال أن يستخدم الطائرات الحربية قبل أن يحكم حصاره وقبل الاقتراب في المسافة بينه وبيننا، لكان بالإمكان نجاة كثيرين أو مغادرة بعض المقاومين المخيم واللجوء إلى أماكن أكثر أمنًا، ما يعني إخفاق الأهداف التي أعلنها، لذلك اختار الالتحام.
ما يهم هو نفينا أن الاحتلال لم يستخدم هذا النوع من الطائرات تخوفًا من وقوع أعداد كبيرة من الضحايا، أو حرصًا منه على سلامة المواطنين، بل لأسباب عسكرية بحتة، فقد كانت صواريخه وقذائف دباباته تتساقط علينا دون مراعاة لوجود نساء أو أطفال بيننا. وفي مرة أطلق صواريخ على مجموعة من المدنيين للاشتباه بوجود مقاتل واحد بينهم.
حتى عند اعتقالنا نهاية الاجتياح كنا نعتقد أن عدد الشهداء بين 200-250 شهيدًا، وأثناء وجودنا في التحقيق كانت المخابرات الصهيونية تقول لنا إن وسائل الإعلام العربية تتحدث عن 500، وكان سؤالهم عن العدد سؤال المستفسر غير العالم بحقيقة الرقم.
عندما بدأت حقيقة الأرقام تتضح أصابتهم صدمة حقيقية. فمن فهمي عبر ما سمعته من كلامهم ورأيته من تصرفاتهم أنهم لو كانوا يعرفون حقيقة الرقم (أقل من 200)، لنفذوا عمليات قتل جماعية أخرى! ذلك ليعيدوا ميزان خسارتهم البشرية التي كانت تسعة وعشرين قتيلًا و146 جريحًا من الجنود والضباط، وفق إحصائية مخابراتهم... يتبع.