مساجدكم متاريسكم - أحمد هادي
كنت في عمر العاشرة أتردد الى مسجد البلدة، تقليدًا لما يفعله الكبار من الشباب المؤمن في حينها، ولأقراني من الناشئة. كنت أشاهد وأسمع كل ما يدور في زوايا هذا البيت من تلاوة للقران والدعاء .
في إحدى زوايا المسجد هناك ما يجذب الروح قبل الجسد. كانت هذه الزاوية مشخّصة من الجميع: إنها المكان الذي يصلي ويتهجد فيه ثلة من المؤمنين.
علمت أنهم من مجاهدي حزب الله. كانوا كأنوار يتلأﻷ بريقها في عيوني المتطفلة على سكناتهم وحركاتهم، وأذني تستأنس بسماع ألحان تلاوتهم لآيات الله، والأدعية المأثورة، فهم بين ساجد وراكع وداعٍ ومرتّل...
جلست مرارًا على مقربة من هذه الجنة. حقًا هي جنة، على الأقل بنظر ذاك الطفل الذي كنته.
أحد ايام كانون الثاني العام 1995. كان الطقس باردًا جدًا، والهواء يصفر خارج المسجد، مؤذنًا بألوان من موجات الصقيع.
تعمّدت الجلوس في جنتي، زاوية المجاهدين، وهنا سمعت أول حوار دار بين شابين، أحدهم قديم العهد بالمقاومة، والآخر كأنه كان جديدًا في صفوفها. كنت استرق السمع بين الفينة والأخرى، لعلي أستطيع فهم ما يجري. كان الأول رجلًا ثلاثينيًا، فيما كان الآخر في بداية العشرينيات. فسمعت الأكبر يقول للأصغر:- جهز نفسك الليلة فلدينا عمل.
ما هو هذا العمل؟ ما كنهه؟ حدثت نفسي. من يعمل ليلًا؟ وفي مثل هذا البرد القارص والمطر الغزير، يكاد الدم يتجمد في العروق؟!
ليلتها، وبينما انا متدثر بلحافي ومدفأتي مشتعلة، بدأت اسمع صوت انفجارات ورصاص وقصف، وكعادة كل الجنوبيين القاطنين على خطوط التماس في القرى الأمامية المواجهة للشريط المحتل حينها، هرعنا إلى الغرف السفلية، لأننا نعرف أن عدونا جبان يتشفى بالمدنيين. ما الخبر؟ إنها عملية للمجاهدين على أحد المواقع. بالتاكيد سينتقم العدو على خسارته من الآمنين!
بعد ساعات من الاشتباكات العنيفة والقصف، ونحن في حالة من الترقب والانتظار، صدح صوت اذاعات الراديو بأناشيد المقاومة.
هرعت الى المسجد لأسمع كلمة او خبرًا. كانت العزة والكرامة والعنفوان تظلل وجوه ملائكة جنتي. يسجدون شاكرين للنصر الذي تحقق.
علمني سلوك هؤلاء الثلة بأن الأصل هو بناء علاقة خاصة مع الله وحججه على الأرض، الرسول الاكرم وأهل بيته. هذا هو سر نصرهم. نصروا الله فنصرهم. توسلوا بآل البيت فلبوا نداءهم. حملوا شعار الحسين، هيهات منا الذلة، فأعزهم الله وأيدهم.
ليلتها سمعته يقول: لا شيء يدعونا إلى تحمل المصاعب وهذا البرد القارص والجهد والجراح والنزف، حتى الجود بالنفس، إلا مواساتنا لسيد الشهداء. هكذا هم. هكذا انتصروا. هذا هو سرهم الكبير، الذي يعجز عن فك رموزه من لا يعرف حقيقتهم وحقيقة إخلاصهم.